لم يكن السجال الذي دار في مجلس الأمة حول قانون اللامركزية، قبل رده من الملك أول من أمس، بلا معنى أو فائدة؛ فقد استمعنا لمداخلات واجتهادات عميقة من رئيس مجلس الأعيان عبدالرؤوف الروابدة، ومن يسانده في وجهة نظره، ولردود ذكية من رئيس الوزراء د. عبدالله النسور وفريقه القانوني، تركزت كلها حول الفقرة الأولى من المادة السادسة من القانون، والخاصة بموضوع الاستقلال المالي والإداري لمجالس المحافظات.
الأغلبية في المجلسين؛ “النواب” و”الأعيان”، انحازت لاجتهاد الروابدة. فيما الحكومة، ومعها الأقلية، تمسكت بالقرار التفسيري للمحكمة الدستورية.
لكن، وكما كان متوقعا، رفض الملك التصديق على القانون، ورده إلى مجلس الأمة، لوجود شبهة دستورية في الفقرة “أ” من المادة السادسة، كونها لا تتوافق والقرار التفسيري الصادر عن المحكمة الدستورية.
موقف الملك من القانون كان محكوما باعتبارين أساسيين:
الاعتبار الأول، قانوني. فالدستور بالنسبة للملك خط أحمر، وواجبه حمايته وصونه. وبما أن تفسير المحكمة الدستورية أصبح جزءا من الدستور، فمن الطبيعي أن ينحاز الملك لنص الدستور.
الاعتبار الثاني، سياسي. فقد كان هدف الملك من وراء الدفع بحزمة قوانين الإصلاح السياسي؛ “اللامركزية” و”البلديات” و”الأحزاب”، وأخيرا قانون الانتخاب، توسيع قاعدة المشاركة الشعبية في صنع القرار على جميع المستويات، والتقدم بعجلة الإصلاح الديمقراطي. وفيما يخص اللامركزية، كان الهدف المركزي تأسيس مجالس محافظات ذات صلاحية وتتمتع بالاستقلالية، ليتسنى للمواطنين المشاركة الفعلية في صوغ أولوياتهم التنموية والخدمية. المادة السادسة من القانون، سلبت الناس هذا الحق، وبالتالي أفرغت القانون من محتواه وقيمته، وكان لا بد من تدخل الملك لتصويب هذا الخلل. وهذا ما حصل بالفعل.
إن أفضل تعليق على خطوة الملك، ما ورد في تصريح رئيس اللجنة المشتركة القانونية والإدارية النيابية، خميس عطية، لـ”الغد”، الذي قال فيه إن الموقف الملكي “انتصار لعملية الإصلاح، وتأكيد بأن عجلة الإصلاح تدور بشكل واضح وسلس، وبرعاية ملكية”. وأضيف أنه لولا هذه الرعاية، لما كتب لعملية الإصلاح في الأردن أن تتقدم خطوة واحدة للأمام. ففي الحالات السابقة التي مُنحت فيها الحكومات والمجالس النيابية حق التصرف، لم تسجل في أجندة الإصلاح سوى خطوات تراجعية، وإصرار عجيب على عدم الثقة بالشعب وحقه في اختيار ممثليه.
“اللامركزية” هي ثاني قانون بعد “التقاعد المدني” الذي يرفض الملك المصادقة عليه في عمر المجلس الحالي، انطلاقا من اعتبارات دستورية ووطنية.
رد الملك للقانونين، يعطينا فكرة واضحة عن أهمية الصلاحيات الدستورية التي يتمتع فيها الملك بهذا المجال، والتي تخوله حق التدخل عندما يرى أن هناك تعديا على الدستور، أو تغولا على حقوق المواطنين في التشريعات. وقانون اللامركزية ينتقص بالفعل من حقوق الناس الطبيعية، ويجعل من المجالس المنتخبة مجرد هياكل شكلية، تعمل تحت إمرة موظفي المحافظة.
في مناسبات كهذه، نكتشف قيمة هذه الصلاحيات، والتي من دونها لمضى “اللامركزية” في طريقه، وصار قانونا نافذا، رغم الرفض الواسع له، والاعتراضات المشروعة عليه، من شخصيات وازنة في الدولة والمجتمع.
إن هذه الصلاحيات هي التي تمنح الملك الحق في التدخل لتصويب المسار، بوصفه الحارس الأمين على الدستور، ومصالح المواطنين والدولة.
مرة أخرى، تثبت “الملكية الدستورية” في الأردن، قدرتها الفائقة على بناء نموذج ديمقراطي توافقي، يحمل المملكة إلى مرتبة متقدمة.