عروبة الإخباري- عكس الخطابان اللذان ألقاهما كل من الرئيسين الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الإثنين، رؤيتيهما تجاه مختلف القضايا العالمية، والكيفية التي يجب أن يكون عليها النظام الدولي. وفيما ظهر أن القضايا التي يهتم بها كل طرف تكاد تكون متطابقة، فإن التباين كان واضحاً في موقف كل منهما حيالها، خصوصاً قضايا المنطقة.
ولم يمضِ على اللقاء الذي أجمعت التسريبات على أنه كرّس اختلاف وجهات النظر بين الرئيسين، في نيويورك، ليل الإثنين، سوى ساعات إلا وكشف وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عمّا يشبه المقايضة التي قد يكون عرضها أوباما على بوتين، تقوم على إقناع موسكو نظام بشار الأسد بوقف قصف الشعب السوري بالبراميل المتفجرة، في مقابل “أشياء قد تكون واشنطن قادرة على القيام بها”.
هذه “الأشياء” ظلت غامضة طبعاً، لكن لا يستبعد مراقبون أن تكون متعلقة بوضعية النظام ورأسه في المرحلة الانتقالية التي شدد أوباما، في كلمته على ضرورة ألا تشمل الأسد شخصياً، بينما تصرّ موسكو، وبوتين شخصياً، على أن تشمل رأس النظام الذي ربما يجدر به أن يبقى في المشهد السوري في مرحلة لا تقتصر على المرحلة الانتقالية، بحسب ما تراه إدارة الكرملين. مرحلة انتقالية لا شك أنها كانت أساس النقاش الذي شهده اجتماع كيري، يوم الإثنين، مع نظرائه من بريطانيا وألمانيا وفرنسا والسعودية والأردن وتركيا، حول الملف السوري وآخر التطورات المتعلقة بها، في نيويورك، لـ”بحث الوضع في سورية والطرق المحتمل سلوكها في المستقبل لتحقيق تحول سياسي ناجح”، على حد تعبير المتحدث باسم الخارجية الأميركية، جون كيربي. وأشار كيربي إلى أن الوزراء المجتمعين “تداولوا أفكاراً تتعلق ببناء زخمٍ دبلوماسي جديد وموثوق يمكن له التوصل من خلاله إلى إنهاء الصراع والسماح للسوريين برسم مستقبلهم دون وجود (بشار) الأسد”.
ومن غير المعروف الفترة التي يحتاجها العالم لمعرفة ما هي “بعض المبادئ الأساسية” التي قال كيري إن أوباما وبوتين اتفقا حولها بشأن سورية، وفق كلام كيري، والذي التقى نظيره الروسي سيرغي لافروف لبحث هذه “الأساسيات” مجدداً أمس الثلاثاء، إلا أن هذه “المبادئ” اقتصرت على أنه “يجب أن تكون سورية دولة موحدة وأن تكون علمانية مع التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية، وأن تكون هناك عملية انتقال سياسي موجهة”، وفق كلام كيري لشبكة “إم إس إن بي سي” الأميركية.
وفي مصادفة لافتة، انطلق كل من أوباما وبوتين، في خطابيهما يوم الاثنين، من نقطة واحدة هي عام 1945، والذي اعتبراه نقطة تحول تاريخية لمسار جديد بعد الحرب العالمية الثانية. لكن كلاً منهما ركّز على الدور الذي قامت به بلاده في رسم النظام الدولي خلال الحرب الباردة.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه أوباما أن الولايات المتحدة نهضت من وسط رماد الحرب العالمية الثانية، للعمل على منع اندلاع حرب عالمية ثالثة، عمد بوتين إلى تذكير العالم بأن القرارات والمبادئ الأساسية للتعاون الدولي تمّ رسمها في يالطا خلال مؤتمر لقادة دول التحالف ضد الزعيم النازي أدولف هتلر، وأن بلاده لعبت دوراً جوهرياً في رسم مبادئ النظام الدولي منذ ذلك الحين.
واتفق الزعيمان ظاهرياً على أهمية العمل الجماعي لمواجهة التحديات الدولية وعدم الانفراد بالقرارات، إذ ركّز أوباما على أن الدول الكبرى يجب ألا تفرض إرادتها على الدول الأصغر حجماً، قاصداً بذلك روسيا وأوكرانيا، فيما رأى بوتين أن قيادة العالم يجب ألا تنفرد بها دولة واحدة، قاصداً بذلك الولايات المتحدة.
على الرغم من أن معظم الدلالات الظاهرية في خطابي أوباما وبوتين وفي تصريحاتهما تشير إلى تباين عميق في نظرتيهما إلى الملف السوري، إلا أن ما تجاهل كل منهما ذكره يكاد يشير إلى نقطة التقاء ضمنية، لا بد أنهما ناقشاها في لقائهما عقب إلقاء الخطابين، وهي نقطة أكثر قوة من نقاط التباين الظاهرة.
في خطاب أوباما، لوحظ تركيزه على شخص رئيس النظام السوري بشار الأسد وتجاهله، إلى حد ما، نظامه، فيما ركّز بوتين على الدور الذي يمكن أن يقوم به النظام السوري، متجاهلاً، إلى حد ما، شخص الأسد. ويشير التفادي الروسي لشخص الأسد والتركيز الأميركي عليه إلى الاعتقاد بأن أي صفقة آتية بشأن سورية، إن لم تتضمن تنازلاً أميركياً بشأن الأسد، لا بد أنها ستضمن تخليّاً روسياً عن شخصه، مقابل الحفاظ على نظامه.
وعلى الرغم من تشديد بوتين في تصريحاته على أن الغرب لا يجب أن يتدخل في اختيار من يقود الدول الأخرى، فإن هذا لا يعني بالضرورة تمسكه بالأسد، بل قد يحمل في طياته استعداداً للتخلي عن الأسد تحت مبرر أن القرار اتخذه السوريون وليس الروس.
ولوحظ أيضاً أن أوباما من جانبه هاجم الدعم الروسي لبشار الأسد، مركزاً على الدعم المقدّم لشخصه كـ”طاغية يلقي البراميل المتفجرة على الأطفال الأبرياء”. وكانت عبارات أوباما توحي بتوصيف الدعم الروسي وكأنه موجه إلى شخص الأسد وليس إلى نظام حكمه. وحمل قول أوباما إن الدعم الروسي للأسد يأتي بحجة أن البديل أسوأ من بشار، تلميحاً إلى الروس بأن مطلبهم المتمثل في وجود نظام يرضون عنه يمكن التفاهم حوله في حال تخلي بوتين عن الأسد، مع التأكيد أن نظام الدولة الإسلامية “داعش” لن يكون بديلاً، لأنه مرفوض من مختلف الأطراف الدولية والإقليمية.
وفي الوقت الذي أشار فيه أوباما إلى أن شبكات الإرهاب الوحشية تحاول ملء الفراغ الذي تخلفه الأنظمة القمعية، فإن بوتين كان أكثر صراحة في إيضاح هذه النقطة بالقول إن الجيش السوري وليس ما يسمى بالجيش المعتدل الممول من الغرب هو القادر على مواجهة إرهاب “داعش”. ومضى بوتين خطوة أكبر بتحميل الولايات المتحدة المسؤولية عن ظهور “داعش” بتدمير الأميركيين لجيش الرئيس العراقي السابق صدام حسين. ويعتقد بوتين أن عناصر “داعش” هم أنفسهم جنود صدام السابقين، وكأنه يريد التحذير من تحول جنود بشار الأسد إلى إرهابيين في حال تم تدمير النظام.
في المقابل، يكاد أوباما يتفق مع بوتين في تشخيصه أخطاء الولايات المتحدة في العراق، إذ إن أوباما أقرّ بذلك قائلاً “لقد تعلمنا درساً قاسياً في العراق، فبعد إرسال مئات الآلاف من جنودنا وإنفاقنا تريليونات من الدولارات، وجدنا أن فرض الاستقرار في العراق من خارجه مستحيل”.
وأبدى أوباما وبوتين تقارباً ملحوظاً في ما يتعلق بضرورة منح النظام القائم في العراق دوراً مهماً في الفترة المقبلة، خصوصاً في مكافحة “داعش”. غير أن الولايات المتحدة لا تزال تنظر إلى الدور العراقي على أنه يجب أن يكون في إطار التحالف الذي تقوده واشنطن على “داعش”، في حين تسعى روسيا إلى أن يكون في إطار تحالف يشمل إيران وسورية وروسيا إلى جانب اللاعبين الآخرين.
ويدعو بوتين إلى إيجاد تحالف حقيقي لمواجهة تنظيم “داعش” يضم مختلف الأطراف المستعدة، على غرار التحالف ضد النازية. وهنا، يتفق أوباما جزئياً مع خيار التحالف، لكنه يرفض حتى الآن إشراك النظام السوري تحت رئاسة الأسد، ويبدي موافقة مترددة على إشراك إيران.
وتميّز أوباما عن بوتين في نظرته إلى مشكلة اللاجئين السوريين، وإن جاء ذلك بشكل عابر في سياق إشارته إلى تشريد الأبرياء من النساء والأطفال خارج حدود أوطانهم. بينما اعتبر بوتين أنه لا حاجة لبناء مخيمات للاجئين، فالحلّ من وجهة نظره هو إعادة هيكلة الدولة التي تفككت “ومساعدتها عسكرياً واقتصادياً، وكذلك الأشخاص الذين بقوا في أماكنهم”.
وكان لافتاً في خطاب أوباما أنه لم يعد يبدي حماساً لحركات التغيير في العالم العربي. في المقابل، فإن معارضة بوتين مطالب التغيير أصبحت جلية ويقولها بعبارات واضحة. ففي الوقت الذي انحصر دعم أوباما للتغيير في انتقاده القمع، محذّراً من أنّه يدفع الشباب إلى التطرّف، فإنّ بوتين شدّد على أنّه يتفهم توق شعوب المنطقة إلى التغيير، ولكن ما حدث خلال الأعوام الماضية منذ 2011، بحسب رأيه، هو انتهاك للحريات ألحق أضراراً فادحة بحياة الناس.
ويختلف أوباما وبوتين في نقطة جوهرية تتعلّق بتحرير الشعوب المقموعة والدور المناط بالدول الكبرى في هذا الشأن؛ إذ يقول أوباما إن من يظن أن المثل العليا المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة غير قابلة للتحقيق، أو عفى عنها الزمن مخطئ، وإن الأنظمة المتسلطة غير قابلة للاستمرار.
ويرى أوباما أن التدخلات العسكرية الغربية ما هي إلا محاولات لفرض النظام الدولي بالقوة، وتأتي في إطار قرارات مجلس الأمن الدولي والمواثيق الدولية، ويؤكد في خطابه أنه في ظل التغييرات المتسارعة فإن الشيء الذي يجب فرضه بالقوة هو النظام الدولي، معتبراً أن روسيا تحاول تأكيد حضورها بطرق تتنافى مع القانون الدولي.
لكن بوتين، في المقابل، أعلن معارضته فرض الخيارات على الشعوب الأخرى، قائلاً إن ذلك أحدث كوارث وقلاقل في الشرق الأوسط تحت يافطات الحرية والتغيير، على حدّ تعبيره. وحذّر من اللعب على أوتار الحرية قائلاً إنه لا ينبغي فرض نموذج واحد على كل الدول، مستدلاً بتاريخ الاتحاد السوفياتي في تصدير التجارب والنظريات الأيديولوجية، والتي قال إنها كانت تجربة فاشلة. وغابت الأزمة اليمنية عن اهتمامات الطرفين في خطابيهما لأسباب غير واضحة، بينما ظهر الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي يتابع الخطابات المتتالية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وقد غلبه النعاس.