يجلس الرئيس الأميركي باراك اوباما على مقعده في القطار الذي يتهيأ لمغادرة محطة الشرق الأوسط خلال لحظات، وهو ينظر عبر زجاج النافذة إلى الرصيف حيث بدأ مودعوه في تناتش الحقائب التي لم يستطع أن يحملها معه، من دون أن ينتظروا انطلاق قطاره حتى. وعلى رغم أنه يهز رأسه أسفاً ويحرك يديه مستنكراً، إلا أن هؤلاء يعرفون أن أبواب القطار أقفلت ولم يعد ممكناً نزوله منه، ولا بد من انتزاع حصصهم من التركة. وبين الواقفين المتلهفين على رصيف المحطة أقوياء مثل بوتين وخامنئي اللذين يتلطى خلفهما بشار الأسد وحيدر العبادي، وآخرون أقل قوة مثل البغدادي والجولاني، يليهم اردوغان وبعض العرب والاوروبيين ومقتنصي الفرص، ومتفرجون شامتون يتقدمهم نتانياهو.
تلك هي الصورة التي توحي بها التطورات في سورية، حيث يلملم الأميركيون خططهم واقتراحاتهم ومواقفهم وينسحبون من الساحة، فيما يباشر الروس تحركاً منسقاً مع الايرانيين يقوم على انخراط عسكري واسع هدفه منع نظام حليفهم الأسد من الانهيار ومده بعوامل الصمود في جمهوريته المصغرة، وفرضه طرفاً معترفاً به في ما يسمونه “الحرب على الإرهاب”.
لكن بوتين لم يكن ليقدم على خطوته التصعيدية لو لم يوفر له الأميركيون بأنفسهم الذريعة التي يحسن استغلالها لمصلحته، عندما أصروا على أولوية المعركة ضد “داعش” وركزوا جهدهم الحربي، أو ما تبقى منه، في شن غارات على التنظيم تبين عدم نجاعتها، وركزوا جهدهم الديبلوماسي على إقناع حلفائهم وأصدقائهم بصواب خيارهم. وأيضاً لأنه يعرف ان واشنطن ستكتفي بالإدانات والاستنكارات الشفوية ولن تفعل شيئاً لوقفه، تماماً مثلما خبر موقفها في اوكرانيا من قبل.
وكرر الرئيس الروسي ووزير خارجيته المتوتر دوماً سيرغي لافروف في الآونة الاخيرة التصريحات عن مخاوف موسكو من عودة “الإسلاميين الروس” من سورية والخطر الذي يشكلونه على أمنها القومي، وعن قلقها الشديد من تنامي قوة “داعش” وتمدده إلى أفغانستان التي يخليها الأميركيون والأطلسيون نهاية السنة.
وتقصدت الردود الروسية على تحذيرات واشنطن من عواقب التورط العسكري، التذكير بـ “المقلب الليبي” عندما اعتبرت موسكو ان الأميركيين خدعوها في مجلس الأمن وأبعدوها على الأرض. وكأن بوتين يقول إن ما يحصل في سورية هو “رد رجْلٍ” لأوباما، لكن الفارق هنا ان الأميركيين هم الذين قرروا الرحيل من تلقائهم.
وكان اوباما، وفي إقرار غير مباشر بأن الأزمة السورية ستطول وأن لا أمل في عودة قريبة للنازحين السوريين إلى ديارهم، طلب من الكونغرس قبل أيام الموافقة على استقبال عشرة آلاف لاجئ سوري خلال السنة المقبلة، أي ما تبقى من ولايته الثانية. وهي الفكرة التي تبنتها الخارجية الأميركية في انتقادها الروس على انتشارهم العسكري في شرق سورية، إذ قالت إنه سيطيل أمد الأزمة ويعقد حلولها، ملقية اللوم على موسكو وحدها ومتنصلة من مسؤوليتها في إطالة النزاع نتيجة ترددها العملي في الموقف من مصير الأسد ونظامه، واستمرار رفضها تسليح المعارضة.
يتعجل الرئيس الأميركي إنهاء دور بلاده كقوة عسكرية في المنطقة، مع حرصه على بقائها بائعاً للتكنولوجيا والمشاريع، تاركاً شعوبها تواجه مصائرها وحدها في مواجهة الطغاة والملالي والمتطرفين، بعدما ساعد على توريطها بأحلام التغيير
حسان حيدر/أوباما يودّع سورية… وبوتين يتلقفها
17
المقالة السابقة