عروبة الإخباري- تتذكّر أنها كانت طفلة، سعادتها تأتي مع لعبة “العروسة” التي تبتاعها من “عيديّتها” في كلّ عيد. لم تتخيّل حينها أن يفرض عليها والدها زوجاً، بعدما بات غير قادر على تلبية أدنى متطلباتها المعيشيّة والحياتيّة، وحتى التعليميّة. ولم تتوقع أن يُقدّمها بنفسه عروساً بثياب الزفاف، كدميتها، لرجلٍ يكبرها بعشرينِ عاماً، وهي في الرابعة عشرة من عمرها، وحجّته في ذلك: “الخوف على مستقبل البنات من بقائهن دون زواج”.
تقول أحلام (18 عاماً)”، إنها تركت بيت زوجها وعادت إلى بيت أهلها بعد ثلاث سنوات من زواجٍ أُجبرت عليه، بسبب ما تتعرّض له من ضرب وإهانة على يدي زوجها. إذ تشعر وكأنّه مجنيٌّ عليها في جريمةٍ ارتكبها ذووها، عدا أنّ وقتاً لم يكن قد مرّ على دخولها مرحلة النضج الجنسيّ والجسديّ قبل زواجها.. بالكاد بضعة أشهر!
“من دون علم المحاكم”(!)
اليوم، تبدو الفتاة المُثقلة بأعباء الحياة الزوجيّة أكثر رفضاً ومجابهةً لرأي والدها بشأن إعادتها إلى منزل زوجها، بعدما تركته منذ عدّة أسابيع. تكاد تُجزم أن حياتها الزوجيّة لم تشهد أسبوعاً واحداً خالياً من الضرب والشتم والإهانة التي أنزلها بها زوجها. إلى ذلك، يضاف اعتماد ذوي زوجها عليها في كل الأشغال المنزليّة، خاصة أنها كانت تعيش مع زوجها في “بيت العيلة”.
تشرح أحلام قصّة زواجها: “أوضاع أهلي الماديّة في غاية الصعوبة. نحن خمس بنات في المنزل، أنا أصغرهن، أبي زوّج شقيقاتي الأربع في عمرٍ لا يتجاوز السادسة عشرة. وكان دائماً يُردّد عبارة: من وين بدي أطعمي البنات؟ زوّجنا في سن مُبكّرة، ولم تكن لديه مشكلة لو كان العريس مثل عمّنا في السن!”.
تُضيف: “لم أكن أعي شيئاً اسمه زواج لما تزوجت. أذكر أنّي كنت في الصف الثاني الإعدادي، لكنّي اضطررت الى ترك الدراسة. لم تكن الحياة التي عشتها تسمح لي بالزواج والإنجاب والدراسة معاً، خاصة وأنا في تلك السن. بأيّ حال، أدّيت دور الزوجة لثلاث سنوات متتالية، وكانت أسوأ سنوات حياتي.. كانت والدتي دائماً تُصبّرني وتقول لي إن الزواج بدايته صعبة، لكن لا أعتقد أن السوء الذي تحكي عنه كان بالحجم الذي تعرضت له”.
تروي أحلام: “لم يمرّ أسبوع واحد في فترة زواجي من دون أن أذهب إلى بيت أهلي بسبب ضرب زوجي وشتمه لي. كان أبي يُعيدني إليه عنوةً، ليعود زوجي ويضربني ويشتمني من دون أيّ سبب في اليوم ذاته. حتى أنه خلال فترة حملي بطفلتي الوحيدة لم يتوقف عن ضربي، وكدت أن أفقد الطفلة عدّة مرات، حتى قررت ترك البيت بلا عودة، وطلب الطلاق، فالحياة معه أصبحت لا تُطاق”.
وفق إحصائيّات متداولة، سجّل العام 2012 نحو سبعة عشر ألف حالة زواج في المحاكم الشرعيّة في قطاع غزّة، كان عمر الزوجة في 35 في المئة منها دون الـ17 عاماً، وقد تم تسجيلها “من دون علم” هذه المحاكم بعمر الفتاة الحقيقي. وفي العام ذاته، رُفعت نحو 2700 قضيّة طلاق، 25 في المئة منها موضوعها “فتيات قاصرات”.
أحلام تقول إنّ زواجها في سن صغيرة لم يتح تأهيلها للحياة الأسريّة، غير أن إجبارها على الزواج جعلها تشعر وكأنها بلا شخصيّة أو رأي.
دعاء لأشرف..
دعاء سليم (21 عاماً) حتّم عليها العرف العائلي أن تتزوّج من ابن عمها فور استعدادها جسمانياً لذلك. تقول إنّ والدتها انتظرت عادتها الشهرية الأولى بشغفٍ كبير، فالعائلة “عينها عليها” منذ خرجت إلى الدنيا، يريدون تزويجها لابن عمّها. عن سن 14 عاماً، أيّ قبل سبع سنوات من اليوم، تمّ زفافها على ابن عمّها أشرف سليم، وهو في عمر 16 سنة. لم تُجبر، أو تعترض على الزواج، على العكس تماماً، فرحت كالأطفال، ولم تكن تعي معنى الزواج!
بينما تروي دعاء حكاياتها، أخذت تُقلّب بين يديها بعض الصور الفوتوغرافية التي التُقطت ليلة الزفاف. فيها، بدا وجهها مشرقاً نضراً، ملامحها طفوليّة للغاية. هي اليوم تحمل جسداً هزيلاً أنهكته خمس ولادات متتالية. وجهها نحيف، عيناها غائرتان تُخبئ وراءهما مسؤوليّة ثقيلة، وتعباً شديداً.
تروي: “منذ كنت طفلة وأنا أسمع الأهل يرددون: دعاء لأشرف، وأشرف لدعاء، ولم أكن أفهم ماذا يقصدون. كنّا نلعب سويّة، نذهب إلى المدرسة مشياً، أعتمد عليه في كلّ شيء، كأنّه أخي الأكبر. وحينما كبرنا، بدأنا نفهم ماذا كانوا يردّدون في صغرنا، لكن لم يقوَ أحدٌ منّا على الاعتراض على اتفاق الأهل منذ سنوات”.
في ليلة وضُحاها، زُفّت دعاء لابن عمّها أشرف، ولم يكُن يبلغ أي منهما الثامنة عشرة من العمر. ارتاح الأهل، وشعروا بأنّهم أوفوا بعهدهم المُتبادل، وألقوا بحملٍ ثقيل على زوجين قاصرين لم يستعدا نفسيّاً وعقليّاً للارتباط الأسري والزواج، على الرغم من استعدادهما جسمانيّاً.
بتنهيدةٍ ثقيلة، تُشير دعاء إلى أنّ شرارة المشاكل الزوجيّة بدأت بينها وبين زوجها في “الصباحيّة”. أراد أشرف أن يُريها “العين الحمرا” من أوّل يوم، هكذا علّمه أصدقاؤه عن ليلة الزفاف. مع الوقت، وبسبب مُتطلّبات زوجها الطفوليّة كما عائلته، عجزت الزوجة عن الاستمرار، وهي فتاة في عمر الزهور.
اشتكت دعاء حينها لوالدتها، لكنّ الأخيرة لم تُعرها الاهتمام المطلوب، كما تقول. لم تأخذ في الاعتبار صغر سنّها، وطفولتها، واشتياقها لألعابها البلاستيكيّة. قيل لها إن كلّ ما يجب عليها فعله هو أن تُطيع زوجها، وألّا تُغضبه، كي لا تؤدي المشاكل إلى الطلاق، فتشمت فيها نساء الحارة!
لم يكن أمام دعاء سوى خيارين، أحلاهما مُر: أن تهرب من بيت زوجها وتذهب إلى أهلها بلا رجعة، أو أن تتكيّف مع الواقع الذي فُرض عليها. وبالفعل، اختارت أن تتقبّل حياتها كما هي، وقد ساعدها على ذلك حملها وإنجابها بعد الزواج مُباشرة. لكنها تقول، بعد سبع سنوات من الزواج، “لو عاد بي الزمن للوراء، لما تزوّجت قبل أن أكمل تعليمي الجامعيّ على الأقل. لقد حُرمت من الدراسة، وأصبحت كالخدّامة في البيت، وحولي خمسة أطفال”.
العرف يغازل القانون
في البحث عن سن الزواج المُسن حتى الساعة في القانون الفلسطيني، فبحسب القاضي في المحكمة الشرعية العليا بغزة، سعيد أبو الجبين، فإنّ القانون الفلسطيني في قطاع غزة حدد سن الزواج للشاب بعمر 17 سنة فما فوق، أما بالنسبة للفتاة فإن سن الزواج القانوني يبدأ من 16 سنة فما فوق. وفي الضفّة الغربيّة، يُحدد سن الزواج للجنسين من 18 سنة فما فوق.
لكن، ثمّة مئات عقود الزواج التي تبرم داخل المحاكم الشرعيّة بعد تزوير شهادة ميلاد الفتاة، أو تسنينها، أي إعطائها تاريخ ميلاد يتوافق والقانون الموضوع، فيعقد القاضي قرانها. كما أنّ هناك عقود زواج أخرى تبرم خارج إطار المحاكم، وداخل إطار العائلة، في ظروفٍ وأوضاعٍ غير إنسانيّة، من خلال إحضار المأذون الشرعي لعقد النكاح على فتاة قاصر، بعد الحصول على إذن مختار العائلة، ويتمّ تسجيله في المحكمة الشرعيّة بعد بلوغ الفتاة السنّ القانونية.
يلفت هنا القاضي أبو الجبين الى أنّ زواج القاصرات ساهم كثيرا في ارتفاع نسب الطلاق في المجتمع الغزّي، حيث سجلت المحاكم الشرعية 2700 قضية طلاق في العام 2012، ربعها كانت الزوجات فيها قاصرات. ووفق بعض الإحصائيّات، فإنّ ما نسبته 37 في المئة من مُجمل عقود الزواج في قطاع غزّة كان سن الزواج فيها أقل من 17 عاماً، خاصة بالنسبة إلى الزوجة.
جريمة بغطاء العادات
تبحث معظم العائلات الفلسطينيّة عن فتياتٍ يبلغن من السن ما بين 15 و19 عاماً لتزويجهنّ للأبناء، في ظلّ اعتقادٍ سائد يقول إنّ الفتيات الصغيرات قابلات لإعادة تربيتهنّ وفق عادات عائلة الزوج أكثر من البالغات!
إلا أن عائلات غزيّة كثيرة تردّ تزويج بناتها وهنّ طفلات إلى الفقر والبطالة وتدنّي المستوى المعيشي. فوفق تقرير صادر عن “الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني”، بلغ معدّل البطالة والفقر في قطاع غزّة (يقطنه نحو 1.9 مليون شخص) 42.8 في المئة، فيما بلغ عدد العاطلين من العمل قرابة 194.7 ألف شخص.
وإذا لم تكن هي السبب الوحيد أو الرئيس خلف هذه الجريمة، فقد أدّت الأوضاع المعيشية والاقتصادية المتردية في قطاع غزّة إلى رفع معدّل زواج الفتيات القاصرات. إذ بلغت نسبة تزويج البنات القاصرات في العام الماضي (2014) 15 في المئة من إجمالي نسبة الزواج في غزة، بحسب بعض الإحصائيّات المدنيّة.
دراسةٌ تفنّد الظاهرة وطيّاتها
نبّهت دراسة أجراها “مركز شؤون المرأة” في غزّة إلى أن تزويج الفتيات الصغيرات جريمة يتم تنفيذها بقبولٍ اجتماعيّ تحت عباءة العادات والتقاليد، وفي ظل صمت القوانين والتشريعات. ولفتت الدراسة الى أن مفهوم التزويج ملتبس لدى الفتيات الصغيرات، ومن غير المنصف ادعاء مشاورتهن.
وأكدت الدراسة ضرورة سنّ قانون يمنع التزويج دون سن 18 عاماً لكلا الجنسين، بغية المساهمة في وضع حدّ لظاهرة تزويج القاصرات. وطالبت بأن يأخذ القضاة في المحاكم الشرعية مصلحة الطفلة كأولوية، وإدراك الآثار السلبية للتزويج المبكر والالتفات لمرحلتها العمرية، والتركيز على الجانب العقلي لا البدني.
وتشرح مديرة “مركز شؤون المرأة” آمال صيام: “نحن أمام ظاهرة في غاية الخطورة في ظل أوضاع فلسطينية سياسية واجتماعية متدهورة في ما يخصّ واقع النساء. ما يستوجب منا كمؤسسات وأفراد وحكومة أن نقف في مواجهة هذه الظاهرة، وإنهاء الانقسام القانوني، وتفعيل دور المجلس التشريعي لسنّ قوانين عصرية قادرة على توفير الحماية للنساء، وتجاوز الثغرات الموجودة في القوانين المعمول بها، خاصة قانون الأحوال الشخصية”.
وطالبت صيام برفع سن الزواج إلى 18 سنة من دون استثناءات، مؤكدة أن القانون الذي يسمح بالتزويج فيه استثناءات مخيفة هي السبب في انتشار هذه الظاهرة.
وفي عرض الباحثة هداية شمعون لنتائج الدراسة، أكّدت أن الأغلبية المطلقة للنساء المشاركات في الدراسة بنسبة 95.6 في المئة رفضن الزواج المبكر، ورفضت نسبة 78 في المئة منهن فكرة تأثير الحرب أو العدوان على الإقبال على تزويج الصغيرات، فيما أيّدت نسبة 22 في المئة منهن قبولها في ظلّ العدوان خوفاً من المجهول.
وارتكزت الدراسة على المنهج الوصفيّ التحليليّ، حيث تكوّن مجتمع الدراسة الأصليّ من النساء اللواتي لا تزيد أعمارهن عن 60 سنة، وخضن تجربة التزويج المبكر، فتم اختيار عينة عشوائية طبقية من مختلف المحافظات في قطاع غزة، مكونة من 596 امرأة. إلى ذلك، تم استخدام أدوات بحثية أخرى، كالمجموعات المركزة، والمقابلات مع المختصّات والمختصّين، وكذلك توثيق 120 قصة لنساء تعرضن للتجربة.
وعلى عكس الظن السائد بأن الفقر هو أبرز أسباب التزويج المبكر، فقد كشفت شمعون بالاستناد إلى نتائج الدراسة أن أبرز الأسباب هو العادات والتقاليد (نسبة 35 في المئة)، ثم زواج أقارب (نسبة 15.3 في المئة)، كما أشارت النتائج إلى أن نسبة 63 في المئة من النساء اللواتي خضعن للدراسة يعتقدن أنهن تعرضن للعنف خلال فترة زواجهن.
وأظهرت منسّقة برنامج الأبحاث والمعلومات أن نسبة 40.3 في المئة من المشاركات تعرّضن للعنف والإيذاء الجسدي من قبل الأزواج على نحو واسع، وأن نسبة 30.6 في المئة منهن تعرّضن لأنواعٍ مختلفة من العنف الجسديّ سواءً أمام عائلة الزوج أو أمام الجيران.
ونبّهت إلى الآثار النفسية والصحية والاجتماعية التي تنعكس على الطفلات اللواتي تزوجن مبكراً، حيث أكّدت نتائج الدراسة أن نسبة 82.6 في المئة من المستطلعة أراؤهن تعرّضن لنوبات بكاء مستمرة ومن دون سبب مباشر خلال فترة زواجهن، وأن نسبة 79.6 في المئة من المشاركات شَعرن بالإحباط واليأس، ونسبة 77.3 في المئة شعرن بالندم والضيق من مجرد تفكيرهن بأنهن تزوجن في سنّ مبكرة.
وبينت نتائج الدراسة أن الأب هو صاحب القرار الرئيس في تزويج الفتاة، حيث أكدت نسبة 44 في المئة منهن أن قرار تزويجهن يرجع لقرار الأب وحده. وبنسبة 25.2 في المئة، كان قرار تزويجهن قراراً عائلياً وبموافقتهن، فيما أشارت نسبة 15.4 في المئة إلى أن قرار التزويج أتى بموافقة شخصية منهن إلى جانب قرار العائلة. واعتبرت نسبة 13.3 في المئة أن قرار أمهاتهن كان الرئيس في تزويجهن.
وسلّطت الدراسة الضوء على أن التزويج المبكر هو جريمة ترتكب بحقّ الفتاة، تحرمها من طفولتها وحقوقها، خاصة حقها بالتعليم، وحقها بالتمتع بصحة جسدية ونفسية.
كما أكدت الدراسة عدم استعداد الفتاة من الناحية الاجتماعية لتحمل المسؤوليات المصاحبة للزواج من بينها المسؤوليات التي لها علاقة بطبيعة ومتطلبات الحياة الزوجية.
وأشارت الدراسة إلى أن الفتيات اللواتي تزوجن في سن مبكرة يواجهن آثاراً متعددة على صحتهن النفسية والجسدية والاجتماعية وتتفاوت هذه الآثار ما بين العوامل المختلفة المتعلقة ببيئة الفتيات ووجود جهات داعمة ومساندة في المجتمع.
من جانبها، أكّدت نتائج مجموعات البحث المركّزة والمقابلات مع المتخصصات بالشأن النفسيّ والاجتماعيّ أن الفتيات المتزوجات في سنّ مبكرة عرضة لجملة من الأعراض المَرَضية، منها الصدمة، والإحباط، والشعور بالدونية، وضعف الثقة بالنفس نتيجة المقارنة، والشعور بالندم والحرمان، والتعامل بعنف مع الأولاد، وقد تصل الأعراض حدّ الاكتئاب ومحاولة الانتحار.
كذلك، كشفت الدراسة أن العنف اللفظيّ والنفسيّ ما زالا يحتلّان المرتبة الأولى في تصنيفات العنف ضد المرأة، بما نسبته 37.2 في المئة، فيما أتى العنف النفسي تالياً بنسبة 29.5 في المئة، ثم العنف الجسديّ بنسبة 24.3 في المئة. أما العنف الاقتصادي فقد سجّل نسبة 9.4 في المئة، والعنف الجنسي نسبة 4.5 في المئة.(السفير)