بعد جهود دولية دامت اثنتي عشرة سنة من المفاوضات العسيرة بين الست دول القوية من جهة (وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا زائد الصين الشعبية وروسيا. وهو ما يجعل عبارة 4 زائد 2 أدق وأصح من 5 زائد1!) وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية من جهة ثانية تم التوقيع على اتفاق متكامل متعدد البنود يقع في مائة صفحة نعته أغلب المراقبين والإعلاميين بأنه اتفاق تاريخي اعتمده مجلس الأمن يوم الإثنين الماضي بشكله النهائي فأعطاه الصبغة القانونية الدولية واستمعنا إلى توضيحات هامة قدمها السيد جون كيري أمام لجنة الكونجرس يوم الخميس الماضي بقصد اجتناب تحرك الكتلة الجمهورية ضد الاتفاق وربما إبطال كل ما جرى والعودة إلى مربع الانطلاق ومما قاله الوزير الأمريكي إن إيران كانت على وشك امتلاك السلاح النووي في غفلة من المجتمع الدولي لولا هذا الاتفاق، وقال أيضا إنه لا بديل عن الاتفاق سوى الحرب. مؤكداً أن أبرز ما ينص عليه الاتفاق هو فرض الرقابة الدولية على المنشآت النووية الإيرانية بشكل دوري وناجع وفجئي وطمأنة دول الشرق الأوسط بأن هذه المنطقة الحساسة ستظل خالية من السلاح النووي (ما عدا السلاح النووي الإسرائيلي غير المعلن والمسكوت عنه في نوع من التواطؤ الدولي الذي يشبه النفاق مما يجعل تخوف نتنياهو من سلاح نووي إيراني أمرا في غاية الغرابة!) بالمقابل فإن طهران سترفع عنها تدريجيا تلك العقوبات الموجعة وستعمل كما وعدت على تأكيد ثقة العالم فيها بسن سياسات أكثر اعتدالا لأنها ستكون سياسات لا تنطلق من ردود فعل متسرعة ولا عشوائية ولا عدوانية كما كان الحال في عهدة أحمدي نجاد الرئاسية. ولعل هذا الاتفاق إذا ما صدقت النوايا يطوي صفحة قديمة من العلاقات الدولية عموما ومن العلاقات بين إيران وجيرانها العرب لتحل محلها صفحة أنصع وأسلم توفر للمنطقة بأسرها مناخا جديدا من الأمن والسلام الدائمين ولم لا من التعاون الاقتصادي والتنسيق الأمني والتكامل الطاقي وتكون المرحلة القادمة على الأقل مرحلة استعادة الثقة المفقودة تمهيدا لشرق أوسط جديد لا بمعنى المحافظين الجدد ولكن بالمعنى الحقيقي الناتج عن إعادة النظر جذريا كل من موقعه في منظومة الصراع الطائفي وتغذية الإرهاب وتصدير الثورات وسن تكتيك الخداع واستعمال الأيدي القذرة هنا وهناك لتمرير مشاريع مشبوهة. ويجدر بنا أن نسوق بعض الملاحظات التي نستنتجها من هذا الحدث المهم: أولها أن العلاقات الدولية بأسرها شهدت إعادة رسم خارطة عالمية جديدة وذلك من خلال اندراج الصين وروسيا في عملية التفاوض وصياغة الاتفاق جنبا إلى جنب مع الدول الغربية الليبرالية الأربع: الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وهو مؤشر شديد الأهمية يؤكد أن عصر الحرب الباردة بعد أن أعلن موته مع تحطيم جدار برلين في نوفمبر 1989 قد تم دفنه في جنازة مهيبة يوم 14 يوليو 2015 في فيينا عاصمة النمسا. فالغرب المنتصر بالديمقراطية والليبرالية حسب نظرية المفكر الأمريكي فرنسيس فوكوياما فتح الباب لغريمين تقليديين روسيا والصين لكي تشاركا في كل تفاصيل الملف النووي الإيراني وهو ما أعطى في الحقيقة بعض الضمانات السياسية والإستراتيجية للمفاوض الإيراني لأن السيد محمد جواد ظريف عبر كل الأشواط الماراثونية للمفاوضات وجد نفسه إزاء أربعة قوى غربية ولكن أيضا إزاء قوتين عظميين حليفتين أو على أقل تقدير ليستا عدوتين لم تقبلا في السابق شروط واشنطن وحلفائها الأوروبيين في الملف النووي الإيراني إلى أن دخلت موسكو وبعدها بكين على الخط منذ سنتين عندما شعر الغربيون أنه لا حل يرجى من مفاوضات طويلة دون إشراك كل القوى العظمى التي تملك حق النقض في الأمم المتحدة وبإمكانها تعطيل أي مسعى أمريكي وغربي خاصة ومعضلة أوكرانيا لا تزال قائمة ومنذرة بالأخطار.
وفي الواقع إذا كان هذا التواجد الروسي الصيني مفيداً جداً لطهران فهو بلا شك أكثر فائدة لواشنطن وبرلين وباريس ولندن لأن الاتفاق سيكون قابلا للتنفيذ بضمان غربي وروسي وصيني ويؤمن ذلك اعتماده من قبل مجلس الأمن وهو بالفعل ما حصل. كما أن روسيا والصين فرضتا حماية مصالحهما في إدارة المفاوضات لأن الخطر النووي أكان إيرانياً أم كورياً شمالياً أم باكستانياً يهم كل شعوب العالم وأساساً العملاقين الروسي والصيني. فنحن اليوم على أعتاب انفراج عالمي إذا ما قرأنا الحدث بعيون المؤرخ ولكن التاريخ علمنا أن لكل دبلوماسية مواقف معلنة ونوايا خفية ونحن لا نرجم بالغيب بل سنتابع تطبيق بنود الاتفاق بتفاؤل. أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالعلاقات بين إيران وجيرانها العرب وهو الأمر الذي يهمنا نحن مهما كانت مواقعنا الجغرافية أو الأيديولوجية من طهران علينا ألا نتوقع الكثير من التطمينات التي قدمتها واشنطن للعرب وألا نضخم من تصريحات الرئيس باراك أوباما يوم الأربعاء الماضي لبرنامج “دايلي شو” حين صرح أن إيران ستبقى رغم الاتفاق دولة معادية مضيفا أن السبب هو معاداتها لإسرائيل وللولايات المتحدة وللسامية ومشاركتها في تغذية الفوضى لدى جيرانها.
مطلوب من العرب التريث وعدم تحميل هذه التصريحات أكثر مما تحتمل لأنها جاءت مباشرة كرد دبلوماسي قوي على ما قاله المرشد الأعلى لإيران وقائد الحرس الثوري الإيراني هذا الأسبوع في غمرة الاحتفالات الشعبية في الشارع الإيراني بما سمي هناك (النصر الإيراني) لأن هذين الرجلين حاولا التخفيف مما يسمى النصر بالدعوة لمواصلة الكفاح لتحقيق المصالح الإيرانية وقال المرشد خاميناي إن ثوابت السياسة الخارجية لطهران لن تتغير جراء هذا الاتفاق! العرب مدعوون اليوم بعد توقيع الاتفاق إلى قطع خطوة دبلوماسية جدية بعقد اجتماع بغاية تنسيق المواقف العربية إزاء إيران دون تصعيد أو مزايدة لكن بحزم وتصميم لأن التأثير الإيراني المباشر أسهم أو تسبب في تعفن الأوضاع في كل من العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين والمملكة العربية السعودية مما يطرح باستمرار ملف انتشار الفتن الطائفية التي لم تكن موجودة في الشرق الأوسط منذ عقدين لولا السياسات الإيرانية التوسعية وتخبط العرب دون موقف استباقي