في غضون أقل من سنة واحدة من سنوات العراق العاصفة، تمخضت التطورات المتدفقة تدفق السيل العرم في حوض الرافدين العجوزين، عن ثلاثة متغيرات كبرى، يؤسس كل واحد منها لحقبة زمنية خاصة به، وينطوي كل منها كذلك على دلالة تاريخية كاشفة لما بعدها؛ فما بالك إذا كانت هذه المتغيرات الفارقات، الحبلى بما لم يخطر على بال رقيب، ولم يحسب من جانب حسيب، تصب جميعها في لجة بحر واحد، غاصّ بمراكب الغزاة والقراصنة، فيما سماؤه ملبدة بأسراب الطائرات الآتية من وراء المحيطات القصية.
لا يختلف اثنان داخل العراق، وربما خارجه، على أن أول متغيرات السنة الأخيرة، وأهمها على الاطلاق، وقع يوم سقوط الموصل؛ ثاني أهم المدن العراقية بعد بغداد، بيد تنظيم “داعش” المتوحش بسهولة مفرطة، في مشهد صادم فاق أشد الكوابيس وطأة، وأعمقها تحولاً في مجرى الأزمة التي ظلت طوال الوقت تلد أزمة أكبر من سابقتها، إلى الحد الذي يمكن معه القول، من دون مكابرة، إن عراق ما بعد واقعة الموصل لن يعود كما كان عليه قبل وقوع هذا الحدث الذي غير وجه الشرق الأوسط.
كانت واقعة الموصل قبل نحو سنة، حدثاً دراماتيكياً صاعقاً، أسقط كل المسلمات والافتراضات السابقة، وتجاوز الحدود والمعايير ذات السقوف العالية، فبدا كنقطة كبيرة في نهاية الفصل الثالث أو الرابع من كتاب الأزمة العراقية المديدة، إن لم نقل حدثا تاريخياً فاصلاً بين زمنين عراقيين وإقليميين متشابكين؛ نظراً لجسامة الواقعة في حد ذاتها، وزخم مضاعفاتها التي بدلت الواقع الجيو-سياسي في الشرق المتوسط، حيث قلبت الأولويات، وألغت الحدود، وخلطت الأوراق والحسابات والتحالفات، وخلقت فوق ذلك كله معادلة جديدة في موازين القوة المتغيرة يوما بعد آخر.
وفي الوقت الذي كانت تسن فيه السيوف الطويلة، وتضرب فيه الآجال الزمنية المتعجلة، لقهر “داعش” في عاصمة خلافته المزعومة، وفق ما وعدت به الحكومة العراقية، وتعهدت به قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وقع المتغير الثاني، الكاشف لمدى هشاشة الجيش الذي بناه الأميركيون وأنفقوا عليه المليارات، ثم قالوا إنه يفتقد لإرادة القتال، وذلك عندما فاجأ “داعش” المتحفزين للانقضاض عليه في الموصل، بضربة على مؤخرة الرأس في الرمادي، وأخذ المدينة أخذة حجاج بن يوسف جديد، رأى رؤوساً أينعت ذات مرة في الكوفة.
ومع أن سقوط الموصل وحدها كان كافياً كي تزلزل الأرض زلزالها تحت ما تبقى من أركان دولة المليشيات الموالية لإيران، إلا أن سقوط الرمادي جاء كي يزيد الطين بلّة، ويصرف الأنظار المشدودة إلى المدينة البعيدة عن المنطقة الخضراء بنحو 400 كيلومتر، إلى شقيقتها القريبة من العاصمة بأقل من 100 كيلومتر، ويجعل من حاضرة هارون الرشيد، التي هي درة التاج في أنظار قادة “داعش”، قاب قوسين من مرمى سهام التنظيم، الذي يحاول عبثا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ألفاً وأربعمائة سنة، واسترداد أمجاد الخلافة الراشدية.
غير أن الحدث الثالث، الأشد دلالة في مجرى نهر التطورات العراقية المتسارعة، أتى من خلال نص الشعار المنقوش على راية “الحشد الشعبي”، عشية الإعلان عن بدء معركة استعادة الرمادي، تحت علم “لبيك يا حسين”؛ في إشارة إلى ما نسميه الدلالة الكاشفة، بإيجاز لا تنقصه البلاغة، عن الهوية الحقيقية لمعنى الحرب ومغزاها، أو قل عن تعريفاتها الدقيقة، وغاياتها الكلية، كدفعة على الحساب المفتوح منذ حرب صفين بين الصحابة، مع أنها في واقع الأمر حرب على سلطة سياسية.
ولا أحسب أن هناك هدية مجانية أثمن كانت تتمناها قيادة “داعش” في أحلام اليقظة، ثم هبطت عليها فجأة، من هدية “لبيك يا حسين” التي وفرت لهذا التنظيم الدموي أمضى الأسلحة التي يحارب بها على عدة جبهات في آن واحد، ونعني به السلاح المذهبي، الذي يوفر له كامل نصاب الادعاء بأنه التنظيم الذي يدافع عن أهل السُنّة، والزعم بأنه القوة الضاربة باسم الأمة التي استبدت بها الأقليات في العراق وسورية ولبنان واليمن، وشردت منهم خمسة عشر مليون مواطن، ليس فقط على أيدي هذه المليشيات، وأنما أيضا على يدي المتنطع للدفاع عنهم.
عيسى الشعيبي/ثلاث دلالات عراقية كاشفة
12
المقالة السابقة