تعرّض السعودية لتفجيرين إرهابيين خلال أقل من أسبوع، وفي هذه الأيام تحديداً، يغري بالتساؤل إن كانت وتيرة العودة لاستهدافها مباشرة قد بدأت. كانت السعودية هدفاً للإرهاب منذ منتصف تسعينات القرن الماضي. وحققت أجهزتها الأمنية نجاحاً باهراً في إفشال هذا الاستهداف. كيف تمكّن الإرهابيون هذه المرة من تفادي عيون الأمن السعودي؟ كان من أهم علامات نجاح هذا الأمن توجيه ضربات استباقية للخلايا الإرهابية قبل تمكنها من تنفيذ مخططاتها. لماذا لم يحصل الاستباق هذه المرة؟ هناك سؤال آخر: من حيث أن تفجيري القديح والدمام حصلا في المنطقة الشرقية، واستهدفا مواطنين شيعة تحديداً، فهل يعني هذا أن موجة التفجيرات الجديدة ستقتصر على المنطقة الشرقية؟ في الماضي القريب كان إرهاب «القاعدة»، أو الموجة الأولى، يتركز في المنطقة الوسطى، ويستهدف بشكل أساسي رجال الأمن والمؤسسات الأمنية. حصلت حينها تفجيرات ومحاولات تفجير في المنطقة الشرقية، لكنها جميعاً اقتصرت على المنشآت النفطية، ومواقع الأميركيين. هذا يتكامل مع الأول. الآن يبدو أن المواطنين الشيعة هم الهدف. ومع أن من المبكر استبعاد استهداف المنشآت النفطية مجدداً، أو تمدد الإرهاب إلى مناطق أخرى من السعودية، فإن هذه البداية تشير الى تحول في الظاهرة بين تسعينات القرن الماضي (الموجة الأولى) وبداية الألفية الثانية في المنطقة مع الغزو الأميركي للعراق (الموجة الثانية).
أن تكون الدولة هي هدف الموجة الأولى، يشير إلى الجذر السياسي للظاهرة. وأن يكون الشيعة هم هدف الموجة الثانية يشير إلى الجذر الطائفي للظاهرة نفسها. استهداف الدولة لا يتناقض مع استهداف أحد مكوناتها. كل ما اختلف هنا هو الظرف والإطار الإقليمي، وبالتالي اختلاف التركيز، مع بقاء الهدف النهائي هو نفسه. لا تزال السعودية هي هذا الهدف بالنسبة الى «القاعدة» في الماضي، وبالنسبة الى أطراف عدة في الحاضر. لكن إلى ماذا يشير الاختلاف؟ إلى أن الطائفية في سياقها الإقليمي، وليس المحلي، سعودياً كان أو غيره، هي المحرك الأساسي والفاعل وراء ظاهرة الإرهاب في موجتها الثانية. مؤشرات ذلك كثيرة، منها استخدام إيران الميليشيات لمد نفوذها في العراق وسورية ولبنان. ظهور ميليشيات سنية في العراق وسورية لقتال هذه الميليشيات الشيعية، والحكومة المحلية التي تقف وراءها. ذهاب مقاتلين سنّة من السعودية ومصر وتونس وغيرها إلى سورية للالتحاق بميليشيات سنّية هناك.
في خضم هذا الصراع، فإن الأطراف التي من مصلحتها استهداف السعودية هي إيران و «داعش» و «حزب الله» والحوثيون. «داعش» معادية لإيران مذهبياً، والعكس صحيح أيضاً، لكن السعودية هي الهدف الأكبر لكل منهما، لذلك تلتقي مصلحتهما في إضعافها، بل في ما هو أكبر وأخطر من ذلك. «حزب الله» ذراع إيرانية في الشام، ومنذ بداية «عاصفة الحزم» تولى الحزب بالنيابة عن إيران إطلاق حملة إعلامية مسعورة ضد السعودية بشكل يومي. لماذا اليمن مهم لإيران إلى حد التصادم مع السعودية؟ هناك عوامل عدة: أن السعودية هي الحاجز الأقوى أمام الطموح الإيراني، أنها جعلت من إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد هدفاً لها في الشام، نظراً لأنه رهَنَ سورية للاستراتيجية الإيرانية. ثالثاً أن السعودية هي الهدف الأساسي للاستراتيجية الإيرانية. وهنا يأتي دور الحوثيين. هذه الجماعة ليست ذراعاً إيرانية بعد، لكن قابليتها لأن تكون كذلك بدأت في التصاعد في السنوات الأخيرة. تطمح هذه الجماعة إلى إحياء الإمامة الزيدية بصيغتها الجارودية في اليمن من جديد. ولتحقيق ذلك تريد الاستعانة بإيران، والاستفادة من طموحها الإقليمي.
من ناحيتها، ترى إيران أن مآل الحوثيين أن يرتهنوا لدورها ومساعداتها العسكرية، فمهمتهم -وهي مذهبية- تأتي في بيئة محلية وإقليمية غير مواتية لهم لا مذهبياً ولا سياسياً، فالحوثيون هم أقلية صغيرة، حتى مذهبياً بين الزيود. هذا فضلاً عن أن طموحهم السياسي يتصادم رأساً مع أغلبية اليمنيين، لذلك لم يجدوا من يتحالف معهم إلا الرئيس السابق علي عبدالله صالح، الذي قامت الثورة عليه وأرغمته على التنازل عن الحكم. وبالتالي، فالتحالف بين الطرفين هو تحالف انتهازي، وبالضرورة موقت. يضاف إلى ذلك فقر الموارد الاقتصادية لليمن، التي لا تسمح للحوثيين بتحقيق طموحاتهم من دون دعم خارجي. من ثم إذا كان هدف الحوثيين إعادة الإمامة، فإن هدف إيران توظيف هذا الطموح لإيجاد موقع قدم لها ونفوذ في جنوب الجزيرة العربية يتكامل مع نفوذها في العراق على الحدود الشمالية للجزيرة. يأمل الإيرانيون -كما يبدو- باستنساخ تجربة «حزب الله» اللبناني في اليمن، أملاً بأن يتحول الحوثيون بحكم هذه الظروف إلى ذراع أخرى لإيران في الجزيرة والخليج العربي. أحد أهم أسباب ضعف الدور الإيراني في هذه المنطقة أنها لا تملك ذراعاً فيها بعد، وهو ما يفسر استماتتها في إيجاد منفذ لمد الحوثيين بالسلاح، وللدفاع عنهم سياسياً.
يشير ذلك إلى أن مصلحة تلك الأطراف زعزعة الاستقرار في السعودية. كلنا يتذكر أن إيران كانت وراء تفجير الخبر عام 1996. ومع ذلك، فإن هذه المصلحة المسلّم بها تقريباً، لا تعني بالضرورة أن أياً من تلك الأطراف وراء جريمتي القديح والدمام، وحتى لو افترضنا ثبوت أن أحداً أو أكثر منها متورط مباشرة، فإنه لا يعفي من التساؤل عن السبب وراء نجاحها في هذه المهمة، خصوصاً أن من نفذ الجريمتين هما شابان سعوديان يحملان عقيدة تتصادم مع العقيدة التي يحملها كل واحد من هذه الأطراف. الأمر الذي يعيدنا إلى السؤال الأول والأهم: لماذا أصبح الإرهاب الذي يستهدف مدنيين أبرياء بكل بشاعة جاذباً لشباب في مقتبل العمر؟
سياق الأحداث، وسياق التحليل يقود إلى الإجابة ذاتها: الطائفية. الشيء نفسه يحدث في الكثير من الدول العربية، ما يعني أننا أمام موجة إقليمية عاتية. لحسن الحظ أن السعودية لم ولن تسمح بتحول الانتماء المذهبي فيها إلى ميليشيا. بل لن تسمح بسيطرة ميليشيا على اليمن في جوارها الجنوبي. ولحسن الحظ أيضاً أن هناك استشعاراً عالياً لخطورة الطائفية بين السعوديين، وهو ما كشفته الجريمتان الأخيرتان. ثالثاً أن الحكومة السعودية تحارب الإرهاب بغض النظر عن الهوية المذهبية لمن يتورط فيه. من هنا، يمكن القول إن تفجير صراع مذهبي في السعودية لن ينجح، فالشعب لن ينجر لذلك، والدولة لن تسمح به. لكن تبقى الدلالة الخطرة لحقيقة أن الطائفية أصبحت مصدراً للإرهاب، فهذا يعني أن الطائفية باتت تنافس الدولة أيديولوجياً وسياسياً وتحاربها عسكرياً. كان هذا محصوراً في لبنان، أو هكذا بدا الأمر، الآن هو ما نراه في العراق وسورية. وفي اليمن، يصر الحوثيون على تكرار الشيء نفسه، ومصر تقترب من حدود الظاهرة نفسها، والآن السعودية. الواضح أن المنطقة تعاني من فراغ سياسي وأيديولوجي كبير، فراغ يجذب الطائفية والإرهاب، ومعه يجذب تدخلات أجنبية بعضها يريد -أو يدّعي- محاربة الإرهاب، وبعض آخر يوظف الطائفية لنشر الإرهاب. وبما أن الطائفية عقيدة لا تكفي محاربتها أمنياً، فلا بد من مواجهتها أيديولوجياً وسياسياً، وهذه مهمة يجب أن تأتي قبل المهمة الأمنية وبعدها. من دون ذلك، وكما يكشف تاريخ الإرهاب، ستبقى الحلول جزئية وموقتة، وسيبقى التحدي خطراً ماثلاً يتهدد الجميع عند كل منعطف في سيرورة الأحداث التي تعصف بالمنطقة.
* أكاديمي وكاتب سعودي