عقب الأحداث الكبيرة التي لفت الإقليم وما تزال؛ من ثورات واقتتال أهلي، ينتظر المحللون الشكل الجديد للمنطقة، وسط توقعات بتقسيمات جغرافية-سياسية جديدة، ربما تحتاج بعض الوقت حتى تتضح معالمها.
القراءات الأولية بهذا الشأن تتعلق بأكثر من بلد عربي، استحكمت فيها الخلافات الطائفية والعرقية، وحتى القبلية؛ فبرزت الهويات الفرعية التي تتطاحن المجتمعات على تخومها أو بسببها، في دلالة قوية على فشل فكرة الدولة الوطنية الجامعة التي تجعل الاختلافات تعدداً وتنوعاً، لكنها الآن تفتح على إمكانية رسم جديد لخريطة المنطقة، بدأت تظهر ملامحها اليوم، إلى حد ما، رغم حالة الإنكار التي تتلبس البعض؛ كل لأسبابه.
في مقابل كل ذلك المخاض الإقليمي الكبير، وجسامة الأحداث، بقي الأردن عصيا على كل أنواء المنطقة؛ فلم تفلح كل الضغوط، وعدوى أمراض مجتمعات دول الجوار، في إدخاله دوامة العنف. فكان أن صار لاستقلال الوطن الأردني اليوم معنى أكثر عمقاً وأهمية وفخرا.
فالأردن يقترب من دخول العقد السابع من استقلاله، مقدماً حالة فريدة على امتداد هذه العقود، وآخر مؤشراتها استقراره الراسخ في زمن “الربيع العربي”، لأسباب داخلية وطنية أصيلة، لا بإغداق مليارات الدولارات على الشعب كسباً للوقت، كما فعل آخرون كثر. فقيمة النموذج الأردني إنما تتعاظم بالنظر إلى فقره بالموارد الطبيعية، وعجز الدولة عن تقديم الأموال للمجتمع لشراء صمته.
لدينا المعطيات مختلفة. فالعلاقة ليست رعوية تماماً، وإن كان ثمة مظاهر لها؛ كما أن الإصلاح، وخصوصا السياسي منه، ليس ناجزاً بعد. لكن ذلك ما يكشف الأسباب الموضوعية للوجه الجديد للاستقلال.
فالنظام الأردني لم يكن يوما دمويا. وثمة معادلة بين الحاكم والمحكوم لم تتوفر في دول أخرى، طالها طوفان الاحتجاج بكل درجاته. يتضافر مع ذلك، وفي علاقة مباشرة معه، حرص الناس الزائد وحساسيتهم المفرطة تجاه أمنهم وأمانهم، ما جعل المجتمع سبباً أساسياً في تكريس الأردن نموذجاً إيجابياً مختلفاً. وهذا ما يدفع إلى طرح السؤال الذي قد يتحول مستقبلا إلى مواضيع أبحاث ودراسات، عن: كيف ولماذا استطاعت المملكة تجاوز الأعاصير غير المسبوقة في المنطقة، ولم تبتلعها دوامات العنف، بخلاف غيرها من البلدان؟
ولأن تطور الدول وبناءها لا يتوقفان، يكون المطلوب التفكير مليا، ومحاولة رسم مستقبل الأردن خلال العقود المقبلة، بناء على إنجازات الماضي والحاضر، عبر تحديد السبل التي تمهد لمرحلة جديدة من الاستقلال.
ورسم المستقبل وتحديد خطوطه العريضة، يحتاجان رؤية جديدة، تنطلق من تكريس الاستقلال، من حيث هو أساساً تحصين للوطن من كل المخاطر المحدقة بنا.
هنا يبرز الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الذات، كعنوان جديد للاستقلال. وهذا يستلزم الشروع بالتفكير والتخطيط له منذ اليوم، حتى نتمكن من إنجازه خلال العقود المقبلة. ونقطة الارتكاز هنا التفكير بما يتوفر لدينا من موارد، لتعظيمها والبناء عليها. وفي هذا السياق فإننا نحتاج إلى إعادة تقديم الأردن باعتباره مكتنزاً لموارد من نوع مختلف.
نواة الاستقلال الاقتصادي هي قطاع الطاقة. فطالما أن النفط غير متوفر، يكون الأجدر بنا النظر إلى ما نملكه، واستثماره بالصورة المثلى، كخطوة أولى في العملية الطويلة المطلوبة.
اليوم، وبعد سنوات من معاناة البلد من نقص الطاقة، والتي انعكست على كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل الحياة، يبدو الأمل متوفرا بأن نبني قطاع طاقة قويا، في حال مضى الأردن بخطى ثابتة نحو تنفيذ كل ما على الطاولة من مشاريع بهذا الشأن.
وإذ تبدأ الانطلاقة الحقيقية للاستقلال الاقتصادي من هذا القطاع، فإنه يمكن بعد ذلك لكل القطاعات الأخرى، وحتى الأفراد، أن يلمسوا تغييرا محفزاً على التطوير، كل في مجاله.
الحاجة ماسة لتكريس الاستقلال الاقتصادي عموماً؛ إذ لا يمكن أن نتطور ونغير من هيكلية الاقتصاد، طالما بقينا نعتمد على الآخرين في توفير احتياجاتنا المالية. ومرة أخرى، فإن صون مستقبل البلد في ظل التكهنات بتغييرات كبيرة في الإقليم، على مدى العقد أو الاثنين المقبلين، بحاجة لمقاربة جديدة، ورؤية مختلفة وأكثر شمولية للإصلاح.
كل استقلال والأردن شعبا وملكا بألف خير.
جمانة غنيمات/الاستقلال 69: ما المطلوب؟
14
المقالة السابقة