رغم المكاسب العسكرية المتلاحقة لقوات المعارضة السورية، التي لم تواجه بعمليات نظامية مضادة منذ أواسط العام الماضي، فقد ظلت هذه المكاسب مجرد نجاحات تكتيكية موضعية، غير قادرة على إدخال تغيير جوهري على مسار الحرب، أو إحداث نقطة التحول التي تنجلي عنها صورة واضحة، تتيح للمراقب رؤية المشهد الكلي، وتمكنه من تكوين وجهة نظر موضوعية إزاء مآلات صراع مديد، بدا وكأنه غير قابل للحسم في المدى المنظور.
غير أن الأيام القليلة الماضية شهدت انعطافة لافتة في مجرى هذا الصراع الدامي، أحسب أنها لا ترتقي إلى مستوى التحول الاستراتيجي، إلا أنها تنطوي في الوقت ذاته على متغيرات كبيرة، يفضي تراكمها الكمي إلى تحول نوعي في أجل قريب، إذا تواصلت المعارك على وتيرتها الراهنة، واستمرت قوى المعارضة تمسك بالأرض وبزمام المبادرة.
ذلك أن ما يجري في الشمال الغربي السوري من تقهقر وانهيارات جزئية متسارعة لقوات الجيش النظامي، المفتقر إلى وجود ميليشيات حليفة وافدة في تلك المنطقة، لم يحدث بهذا التتابع من قبل، ولم نشهد مثيلاً له طوال السنوات الأربع السابقة. الأمر الذي يرجح حصول تلك المتغيرات المؤسسة لهذا التحول، حيث يمكن تشخيص ثلاثة منها.
الأولى، اشتداد حالة التعب والإنهاك، وما يرافقها من انخفاض في المعنويات، بدأت تظهر مؤخراً على أداء جيش نزف كثيراً (نحو مئة ألف قتيل) ولم يلتقط أنفاسه أبدا، أو يتوقف عن القتال لليلة أو نهار، بما في ذلك أيام الأعياد. كما لم يجدد دماء مقاتليه من احتياطي الجنود المكلفين بالخدمة الإجبارية؛ هؤلاء فروا من الواجب الإلزامي، أو امتنعوا عن أدائه لأسباب متنوعة.
الثانية، ازدياد حالة الملل من طول أمد حرب أكلت الأخضر واليابس بلا رحمة، وهدرت الطاقات الذاتية بالجملة، ودمرت الحياة اليومية بلا طائل، وجعلت الموت شيئاً عادياً والنجاة من طاحونته أمراً استثنائياً. ويبدو أن هذه الحالة قد امتدت مؤخراً إلى بعض الداعمين الخارجيين، الذين بدأوا يضيقون ذرعاً من العناد والمكابرة لدى نظام تقيّحت جراحه، وفقد جل مقومات بقائه، من دون أن يبدي رغبة في البحث عن مخرج، إن لم نقل أنه كان يزيد الوضع المعقد تعقيداً.
الثالثة، الافتقار لروح المبادرة السياسية، وانعدام البدائل الواقعية، في ظل استمرار التمسك بنظرية المؤامرة الكونية، والتلطي وراء شعار الممانعة اللفظية، والإمعان في القراءة الخاطئة، وفي استخدام خطاب لا مصداقية له. الأمر الذي فاقم حالة الاستعصاء، وضيق هامش المناورة، وبدد سائر الخيارات الأخرى لدى نظام ازداد توحشاً ويأسا ودموية.
ولعل ما جرى في مدينة إدلب وجسر الشغور وسهل الغاب مؤخراً، وقبل ذلك في العديد من البلدات الجنوبية، خير دليل على ما ذهبنا إليه عن حصول تلك المتغيرات الجديدة، على أساس أن سقوط معسكر أو حاجز عسكري، هو أمر مختلف عن سقوط منطقة مدنية، حيث يمكن للجيوش المتماسكة أن تقاتل في المدن لعدة أشهر أو سنوات، لا أن تنسحب منها خلال يومين أو ثلاثة، لولا اشتداد حالة التعب والإنهاك، واحتدام حالة الملل وانعدام اليقين لدى المدافعين اليائسين عنها.
بدا المشهد الحربي في شباط (فبراير) الماضي، وكأن النظام وحلفاءه من المليشيات المذهبية في طور شن هجوم مضاد واسع على جبهة القنيطرة وحوران، عندما تم حشد الحشود وسط صخب إعلامي هائل، وحضر الجنرال الإيراني قاسم سليماني بنفسه لتدشين المعركة. إلا أنه سرعان ما توقف الهجوم، وتلاشت نبرة الوعيد والتهديد فجأة، لأمر لا يمكن تفسيره إلا بفشل الهجوم، وازدياد الخسائر البشرية، أو كما قيل، لخلاف سياسي مبعثه عدم ثقة الإيرانيين بفاعلية “حماة الديار” المصابين بالتعب والملل وانخفاض الروح المعنوية.
إزاء ذلك كله، فإن قراءة سياسية بعقل بارد، لمغزى التحولات العسكرية الأخيرة، تقول بموضوعية لا مراء فيها، إن تسمية الانسحابات المذلة، من دون مقاومة تذكر، بعمليات إعادة انتشار “ناجحة”، وفق الخطاب السوري الرسمي، لا يمكن لها أن تغطي على حدوث نقطة انعطاف كبرى في مجرى هذه الحرب، قد تفضي إلى تحول استراتيجي، لاسيما إذا ما غادرت المعارضة المسلحة حالة الدفاع إلى حالة الهجوم المنسق الشامل، وفق ما تبدو عليه معطيات المرحلة الجديدة.