أحسنت إدارة مركز «الرأي» للدراسات صنيعاً حين عقدت ندوة مغلقة عن مستقبل مدينة العقبة، ثغر الأردن الذي يحتاج إلى ابتسامة أعرض. وأحسنت إدارة سلطة إقليم العقبة صنيعاً حيث تجاوبت مع هذه المبادرة. فالعقبة تستحق منا كل ذلك الاهتمام العلمي الجاد في مستقبلها. لماذا؟
ليس فقط لأن العقبة هي ميناء الأردن الوحيد، وليس لأنها ذات موقع مهم في شمال البحر الأحمر. ولكن لأن هذه المدينة فيها إغراءات كثيرة بحاجة إلى مزيد من التركيز الاستثماري لتكون مشروعاً مجْدياً، ومجْدياً جداً للاقتصاد الأردني.
فهي ميناء، ومنطقة جذب سياحي طوال العام، ومناخها جاف، لأن الهواء يمر عليها إلى دخل البحر وليس منه، ولأنها منطقة صناعية، ولأنها أصبحت مدينة جميلة بحق وحقيق.
ومذ أن تولى جلالة الملك عبدالله الثاني مقاليد الملك والحكم في الأردن، وهو يعطي هذه المدينة جزءاً كبيراً من وقته واهتمامه. وفي مسح سريع فإن قيمة الاستثمارات التي بُذلت حتى الآن سواء أُنجزت المشروعات أم ما تزال في مراحل التنفيذ، تقدّر بحوالي 20 بليون دولار على الأقل، أو ما يساوي حوالي ثلثي مجموع المديونية العامة على خزينة الدولة الأردنية حتى الآن.
ونستطيع أن نستثمر المشروعات والفرص المتاحة في المدينة لإحياء هذه الاستثمارات، وجعلها فعالة ومربحة، بحيث تعود على الأردن سنوياً يدخل لا يقل عن 2-3 بليون دولار، عدا الميناء. وهذه المبالغ لو تحققت، فسوف تكفي لخدمة الدين العام أو معظمه.
والقصد من هذه المقارنة بين عوائد العقبة وخدمة الدين، هو تذكير المخططين والمواطنين في بلدنا الأشم بضرورة أن يحولوا تراب العقبة ورملها فعلاً إلى ذهب، وهي بحاجة إلى تلك اللمسة «الميداسية».
ومن المشروعات الكبرى التي أقيمت أو تقام في العقبة، مشروع السرايا الذي بيع -كما يقال- بالكامل، وتقدر قيمته بحوالي بليون دينار. وهناك المشروع الذي يقوم به رجال الأعمال النشيط والهمام صبيح المصري، وهو مشروع تالا بيه (أو خليجتالا)، والذي ستبلغ كلفته عند انتهائه حوالي 2 بليون دينار. وهذا الرقم ليس سهلاً، وقد حظيت بفرصة التجوال في هذا المشروع الذي يحتوي على بحيرة تزود من مياه البحر، وملعب جولف بالمقاييس الدولية التي تؤهله لاستقطاب المسابقات الدولية، وأربعة فنادق، وفلل وشقق. ولا شك أنه مشروع متميز.
أما المشروع الثالث والكبير، فهو مشروع المعبر وميناء زايد والذي تموله شركات من دولة الإمارات العربية المتحدة، الدولة الشقيقة التي زادت من استثماراتها في الأردن. وتقدر قيمة هذا المشروع الكبير عند انتهائه بحوالي 10 بليون دولار أو ما يساوي 7 بلايين دينار. وهذا المشروع الكبير -بالإضافة إلى مشروع «تالا بيه»- سوف يمنح العقبة علامتها الفارقة، وطبيعتها الأخاذة.
ويجب أن نتذكر أن الغرف الفندقية في مدينة العقبة كانت حوالي 1200 غرفة قبل ستة عشر عاماً، وأصبحت الآن حوالي 11 ألف غرفة، وبانتهاء المشروعات الفندقية والأجنحة الفندقية، فإن مجموع الغرف سيبلغ حوالي 20 ألفاً، أو ثلث ما هو موجود حالياً في شرم الشيخ.
وهناك في العقبة الآن فرع للجامعة الأردنية، وفرع لجامعة البلقاء التطبيقية يمنح شهادة البكالوريوس، ومن المتوقع أن تبدأ جامعة العقبة للتكنولوجيا التدريس مطلع العام الدراسي القادم. والعقبة بحاجة إلى أن توفر خدمات تعليمية وصحية راقية لأن هذه تتناسب مع طبيعة الديمغرافيا السكانية التي ستقطن العقبة.
كذلك، فإن المشروعات الكبيرة التي نفذتها الحكومة وتنفذها في العقبة، هي مشروع سكة الحديد من وادي اليتم إلى الميناء الجديد، ومشروع قناة البحرين الذي وقعت اتفاقيته، وتقدر قيمة هذين المشروعين بحوالي 1.5 بليون دينار. وهناك ميناءا الغاز السائل والغاز الطبيعي من أجل مواجهة حاجات الأردن من هذين الأمرين، ولا شك أن هذه المشروعات وغيرها من عشرات المشارع التي نفذها القطاع الخاص في قطاعات الإسكان، والمراكز التجارية، والصناعة، والخدمات وغيرها، تجعل رقم الاستثمار في العقبة مذهلاً.
هذه الحقائق تأتي كرشّة ماء بارد على وجوههنا لكي نستفيق إلى الحقائق، ونبدأ في تسهيل مهمة التستثمار في هذه المدينة المتنامية. وللتذكير، فإن عدد سكان العقبة قد ارتفع من حوالي 60 ألفاً في نهاية القرن الماضي إلى حوالي 160 ألفاً في الوقت الحاضر. فهل نترك هذا الكنز الثمين من دون تحريك أم نقول «افتح يا سمسم».
ونحن نقف الآن على أبواب تنفيذ الرؤية الاقتصادية حتى عام 2055، والتي أمر صاحب الجلالة حكومته بوضعها، والتي من المتوقع أن تطلق في اجتماعات «دافوس» في منطقة سويمة بالبحر الميت في النصف الثاني من شهر أيار القادم. ومع أن هذا ليس مؤتمراً أردنياً، بقدر ما هو مؤتمر يعقد في الأردن بسبب ما ينعم به البلد من أمن وسلام، ولكنه مناسبة يستفيد منها الأردن لدفع صورته الاقتصادية والسياسية إلى الأمام مستثمراً وجود المئات من كبار السياسيين والمستثمرين في المنطقة والعالم.
يجب أن ننظر إلى العقبة على أنها ليست مشروعاً لأهل العقبة وحدهم، بل يجب أن ينظر إليه على أنه مشروع وطني عربي دولي بامتياز، يملكه الأردنيون، ويقع في العقبة، ويعطي أهلها الفرصة الكاملة لكي يكونوا جزءاً أساسياً منه. ولكن إدارة المدينة وإنجاز الوظائف البلدية فيها يجب أن تكون بأيدي أهلها والمقيمين فيها بشكل دائم. وهذا الفصل بين البعد الاستثماري الوطني والأداء الوظيفي المدني والبلدي في العقبة يجب أن يتحقق.
كذلك، لا بد من إعادة صلاحيات الاستثمار إلى العقبة نفسها أو إلى مجلس المفوضين وشركة استثمار العقبة والتي يرأس مجلس إدارتها رئيس هيئة المفوضين في العقبة. وهناك من يخلط بين التنازل عن السيادة والتنازل عن الولاية. فالسيادة على العقبة ليست موضع شك ولا نقاش ولا تساؤل. ولكن تنفيذ الصلاحيات هو أمر إداري محض يجري بموجبه تفويض صلاحيات الحكومة في عمّان إلى مجلس المفوضين الموثوق.
والأمر المهم هو أنه من غير المعقول أن نصدر قانونَ استثمارٍ جديداً يفوض صلاحيات الاستثمار في كل أنحاء الأردن (ما عدا سلطة إقليم العقبة) إلى هيئة الاستثمار المؤسسة في القانون الذي صدر في العام 2014، في الوقت الذي نحرم فيه سلطة إقليم العقبة من ممارسة صلاحياتها المنصوص عليها في قانونها. أما إبقاء حالة الاستثمار على حالها كما هي عليه الآن من تنازع الصلاحيات والمسؤوليات بين السلطة والحكومة، فلن ينجح في تفعيل هذا المشروع، وتمكينه من استرداد كلفه العامة والخاصة، وجعله وسيلة لدفع هذا المشروع إلى الأمام ليجعل من ميناء الأردن الوحيد الثغر الباسم والفرح بحق وحقيق.
وهذا يدفعنا للتساؤل مستقبلاً حول الذي يجب عمله الآن لإحياء هذا المشروع الاستثماري. لقد أحسن مركز «الرأي» للدراسات ومديره العام د.خالد الشقران ومعاونوه في عقد هذه الندوة في العقبة للتدارس بين النواب والمختصين وكبار المستثمرين والمحافظ وهيئة مفوضي العقبة وشركة الاستثمار فيها، والخروج بملحق كامل في صحيفة «الرأي» لإعادة وضع العقبة على صفحات الاهتمام الأولى.
وأرى أنه لا بد من وضع خريطة بالمشاريع التي تريد الجهات المسؤولة تنفيذها في العقبة، وأيّ المشروعات ستنفذ من قِبل الدوائر الرسمية، وأيها الذي تريد تنفيذه من القطاع الخاص، مع الشروط الواجب تحقيقها، وأن تقوم السلطة سلفاً بالحصول على الموافقات المطلوبة لتلك المشروعات إن كانت تتطلب تلك الموافقات، ومنح التصريح بتنفيذها، وهذا تمرين ضروري لا بد منه.
أما فيما يتعلق بمتطلبات البنى التحتية والمرافق العامة المطلوب إنشاؤها، فلا بد من الاتفاق مع الحكومة على تأمين المخصصات المطلوبة لها، سواء من الموازنة العامة أو من جهات عربية ودولية.
كذلك، لا بد من توفير المرافق الترفيهية وتنويعها في العقبة، وتشجيع السياحة الداخلية إليها. وقد استمعت إلى عدد من المبادرات في العقبة نحو هذا الأمر، فوجدت بعضها في منتهى الذكاء، ويفيد كلاً من المستثمر والسائح الأردني، فلا تكون العقبة وجهة سياحية مرتفعة الكلف. ويجدر مثلاً بالمشروع الذين طوره السيد هيثم المجالي وعرضه على الجهات العليا أن يرى النور قريباً.
كذلك، فإن التقرير الذي قدمته اللجنة المالية في مجلس الأعيان حول قانون الموازنة العامة 2015 قد أكد على أولوية إصلاح الطريق الصحراوية، وتحويله إلى طريق نافذة سريعة. فمن غير المعقول أن نشجع السياحة الى العقبة إذا كان السفر اليها يعني دفع مبلغ خمسين ديناراً على الأقل مخالفات، وخمسين ديناراً تصليحاً للمركبة، وسفراً يتطلب أربع ساعات. ولعل إصلاح الطريق، وتحويلها إلى طريق مدفوعة على غرار «سالك» بمقدار عشرة دنانير للرحلة في الاتجاهين، ربما يوفر مبالغ أكبر، ويجعل السفر للعقبة أكثر جدوى للسياح والمسافرين.
وبالمثل، فهذا يتطلب أيضاً الاستفادة من مطار الملك الحسين الذي يجري الآن توسيع قاعات الاستقبال فيه من أجل طائرتين صباحية ومسائية بين عمان والعقبة، وكأن التوقيت وُضع لركاب الترانزيت، وليس للأردنيين.
إن العقبة ثروة وطنية لم تُستثمر بعد الاستثمار المقنع. ولكن آن للأردنيين جميعاً أن يرفعوا رؤوسهم فخراً بها، لأنها قادرة على أن تكون ثغرنا الباسم بنظافتها، وألقها، وقلبنا النابض بدفئها، وجيوبنا العامرة من الدخل منها.
ولقد صار من الواضح أن «مشروع العقبة» يحتاج إلى إدارة ذات رؤية واضحة وقدرة تنفيذية عالية. وكل الاحترام والتقدير للرؤساء التسعة الذين تعاقبوا على منصب رئيس سلطة العقبة، وكلهم عمل جهده ليحدث فرقاً بأسلوبه وطريقته. ولكن المطلوب الآن هو كساء عظم العقبة لحماً حتى تصبح وحدة كاملة نابضة بالحياة. وقد لمست هذا في الرئيس الجديد د.هاني الملقي، والذي عملت معه لسنوات طويلة في الجمعية العلمية الملكية والوزارات المتعاقبة. ولقد لمست أن أهل العقبة يعقدون عليه الأمل، وهو متوجس من المسؤولية، ولكنه توجس العاقل الذي يعرف حجم التحدي وليس توجس المتردد المتشائم الذي لا يريد أن يعمل.
ودعونا نغمض أعيننا على العقبة لنرى مستقبلها بعد عشر سنوات. سنرى أنها ستكون مدينة عامرة بالحركة، وبالسياح، وبالشقق، والصناعة، والجامعات، والمرافق الصحية المتقدمة، وبالمتنزهات، والمسابقات الدولية، وبمشروعات المياه، والسكك والطاقة. وسنرى طرقها جميلة، وجبالها زاهية بالعمران، وستكون حلقة متكاملة مع وادي رم الجميل، والمزارع في وادي عربة، والسياح في البحر الميت والمغطس، وسنرى مطارها يعج بالطائرات، وسكانها (نصف مليون) في حركة دائبة لا تنقطع…
هذا هو حلم العقبة الذي يريده ملك البلاد.
حقق الله لنا ذلك الحلم الجميل..
جواد العناني/الثغر الاقتصادي الباسم
20
المقالة السابقة