وددت، أول الأمر، أن أضع عنواناً لمقالي هذا على شكل سؤال استنكاري: “لماذا يحب العراقيون عراقهم؟”. إلا أنني عدلت عن ذلك، لشدة ما ينطوي عليه مثل هذا السؤال الساذج من استفزاز بالغ. فقلت لنفسي: دعي عنك لعبة التشاطر في غير موضعه؛ فمن هو ذا الذي لا يحب بلاده، مسقط رأسه وملعب ذكرياته المبكرة، ومثوى رفاته في نهاية المطاف؟
لو كان لي أن أدلي بشهادة مكتوبة، قائمة على خبرة ذاتية ومشاهدات مستمدة من ذكريات أيام الدراسة في القاهرة ومدنها الجامعية، لقلت إن الطلبة العراقيين من أترابي، كانوا أكثر الزملاء حباً لوطنهم، على نحو أشد مما هو عليه حب نظرائهم العرب لأوطان كل منهم. حتى إنه عندما كان يطول الحديث في السهرات الطلابية عن المدن والأمكنة، كانت عيون العراقيين تترقرق بالدمع، حنيناً لبلاد الرافدين، من الموصل إلى البصرة.
هكذا، يبدو من البدهي جدا ألا يسأل المرء عن دواعي حبه لبلاده، حتى وإن كانت فقيرة، قاسية المناخ وشحيحة الفرص والموارد. فما بالك بسؤال العراقي عن سبب حبه لبلد ذي ماض تليد، وبأس شديد، ووفرة في كل شيء، وجميع ما يدعو إلى الفخر والاعتزاز، خصوصاً في ذلك الزمن الذي لم يكن فيه العراق، الذي كان يوصف بـ”بروسيا العرب”، قد دخل في دوامة الحروب الخارجية والانقسامات الداخلية والعنف المذهبي؟
والحق أن ما أيقظ هذه الذكريات القديمة، كان قرارا حكوميا عراقيا مباغتا، يقضي بعدم السماح بدخول عوائل النازحين من محافظة الأنبار إلى بغداد، إلا بوجود كفيل مقيم في العاصمة المخطوفة من قبل المليشيات، بمسوغ مثير للريبة والاشمئزاز، أساسه أن كل نازح (معظمهم من النساء والأطفال) إرهابي إلى أن يثبت العكس، رغم أن مشهد المتكدسين على تخوم بغداد، كان يقطع نياط القلب ويبعث على الرثاء.
للوهلة الأولى، بدا هذا القرار الغريب العجيب، وكأن صاحبه بدأ يعزف عزفاً منفرداً على وتر مذهبي خاص، بلا “نوتة” مكتوبة تضبط كل إيقاع نشاز. إلا أنه سرعان ما تبين أن القرار له مرجعية رسمية معتمدة، ولديه مدافعون عن مبرراته، راحوا يتبارون على شاشات التلفزيون في تسويغ موجباته. الأمر الذي زاد من استهجان المخاطبين به، ليس فقط من جانب من أغلقت الدروب في وجوههم، وإنما أيضاً من جانب عراقيين وعرب وكرد وترك في الجوار.
وأحسب أن الأردنيين، الذين سبق لهم أن استقبلوا ملايين العراقيين إبان الحروب الماضية، من دون أن يخطر في بال واحد منهم طلب “فيزا” أو كفيل، كانوا أكثر من تلمس في أعطافه الرفعة الأخلاقية، وسمو مشاعر الأخوة القومية، وهم يعقدون مقارنة اضطرارية، لا مفر منها، بين موقف سادة بغداد الجدد، وبين موقفهم النبيل حيال أشقاء أكرهوا على الفرار من ويلات الحرب الطاحنة، وهو ما جعل هذا البلد الشجاع، نموذجاً يحتذى به في الكرم، وموضعاً للاحترام الشديد.
وليس من شك في أن إقليم كردستان، الذي استقبل في غضون عام واحد نحو مليوني نازح من مختلف بقاع العراق، قد ساورته تلك المشاعر المماثلة، المفعمة بالفخر والزهو بالذات، عندما يعقد نفس المقارنة الصامتة، بين سعة صدره وسخاء يده، وبين ضيق صدر وقصر نظر من هم أولى منه في عاصمة الرشيد باحتضان أهل الدار، أولئك الذين حل على رؤوسهم بلاء أزرق، فهربوا من الرمادي زرافات، ليجدوا في انتظارهم بلاء أسود في بغداد، من دون أن يعثروا على جواب للسؤال الموجع: أين المفر؟
ومهما كانت بلاغة المدافعين عن مبررات الحصول سلفاً على كفيل لعراقي في عاصمته بلاده، فإن هذا القرار الشائن بحق متخذيه الصغار، لن يسقط من الذاكرة الجماعية العراقية سريعاً، ولن يدون في سجل الوقائع العراقية إلا باعتباره دليلاً ملموساً على السقوط الأخلاقي والسياسي والوطني للطبقة الحاكمة في المنطقة الخضراء. وفوق ذلك، فإن هذا القرار الذي لا سابق له بين الأمم، سوف يشكل ركناً قوياً من أركان أي قرار قد تضطر لاتخاذه أي من دول الجوار في وجه أي نزوح مستقبلي محتمل، من بلد تتقلب فيه الأحوال، وتتغير فيه التوازنات باستمرار.
عيسى الشعيبي/هل لديك كفيل في بغداد؟
17
المقالة السابقة