في المناسبة تلوالأخرى يشير الملك عبد الله الثاني إلى أن “تحسين ظروف المعيشة، وتوفير فرص العمل، وتقليص مساحات البطالة والفقر، وينبغي أن تكون في رأس أولويات الدولة”. وهذه إشارات ليس الغرض منها طمأنة الجمهور وتهدئة مخاوفه، وإنما هي تعليمات موجهة إلى الحكومة بالدرجة الأولى ،بأن عليها التحرك وأخذ زمام المبادرة في تغيير وتحسين الظروف المعيشية للمواطن الأردني، وتقع على كاهلها مسؤولية التحرك لتسحب معها الشركاء الآخرين، سواء كانوا مستثمرين أومنظمات مجتمع مدني،أوشركات محلية أوعربية أودولية. وفي المقابل فإن أهل الخبرة والتجربة والعلم والإدارة، يؤكدون بكل الوسائل وفي مناسبة تلوأخرى بأن هذه المفردات الإنسانية الهامة التي يشير إليها الملك مرارا وتكرارا، وتكدر حياة الغالبية العظمى من المواطنين لا يمكن مواجهتها والتخلص من أضرارها وتبعاتها الكارثية إلا بالاستثمار المنتج، والمشاريع الجديدة، والتنمية المكثفة، في المحافظات وفي الأرياف والبوادي. صحيح أن الإدارة اللامركزية والبلديات والمحافظات التي نضطلع بجزء من مسؤولية التنمية المحلية تمثل خطوة هامة،وبالتالي فإصدار القوانين سواء للبلديات أواللامركزية من شأنه أن يدفع بالاتجاه الصحيح، ولكن تحسين الظروف المعيشية للمواطنين بالاعتماد على القوانين فقط لن يتحقق. فقاطرة التغيير لا تتحرك إلا بالاستثمار المتواصل وإقامة المشاريع التي تولد فرص عمل حقيقية ودائمة في مواقع البطالة ،وفي المناطق التي تفتقر إليها. فالقطاع الخاص لا يغامر في هذه الظروف المعقدة والحالة الاقتصادية المرتبكة، ما لم ير الحكومة بمؤسساتها الرسمية المختلفة تتقدم الركب في خطوات واثقة.
إن محورا أساسيا من محاور مكافحة الإرهاب والتطرف يتمثل في تحصين الجبهة الداخلية من جهة، وإزالة البيئة الحاضنة للتطرف من جهة ثانية. وقد أصبح جليا للعيان أن الفقر والبطالة والتهميش والإحباط والجهل هي دعائم مثل هذه البيئة. هذا، إضافة إلى أن تحسين أوضاع المواطنين ومساعدتهم على الخروج من أزماتهم المعيشية المتواصلة هوحق وطني وإنساني وأخلاقي لا ينازع أبدا.
ويتساءل الكثيرون: هل هناك مبرر أوتفسير ، رغم توالي السنين وتعاقب الحكومات، وتكرار الإشارات الملكية ،وتذمر مئات الآلاف، لماذا لم تتبلور لدينا خطط محددة وبرامج واقعية وعملية للخروج من أزمة البطالة ، وتحسين ظروف المعيشة وتنمية المناطق الفقيرة وخاصة في المحافظات؟صحيح أن الأجواء السياسية في المنطقة تزداد تعقيدا يوما بعد يوم ، وصحيح أن حالة عدم الاستقرار بكل انعكاساتها الإقتصادية والإجتماعية والنفسية تتفاقم يوما بعد يوم، و” لكن الإنتظار حتى تعود الأمور لما كانت عليه المنطقة من هدوء قبل سنين، هوإنتظار في المجهول ولا مبرر له ولا يساعد في شيء”.فمهما كانت ظروف المنطقة فإنها لا تمنع من أن يكون هناك خطط وبرامج اقتصادية واجتماعية وسياسية فاعلة تمس حياة المواطنين وتزيدهم دخلا وقدرة وإمكانات.لقد جاءت المنحة الخليجية وذهبت، ولم تكن هناك مشاريع تنموية للإفادة منها ، فذهبت الأموال وتفرقت هنا وهناك في مشاريع ثانوية وخدمية لم تكن ذات اثر تنموي إلا في أضيق الحدود, ولم تستثمر في تغيير بنية الاقتصاد الوطني والذي لا يولد أكثر من 40 ألف فرصة عمل في حين نحتاج إلى ما يزيد عن (75) ألف فرصة عمل سنوياُ.أما القطاع العام فإنه يوظف أكثر من (42%) من القوى العاملة . وهذا ينعكس سلباً على الاقتصاد وعلى الناتج المحلي ، ويعمل دافعا لمزيد من الاستدانة والاستمرار في الحلقة الاقتصادية الاجتماعية المفرغة .
وما هوملفت للأنظار أن الحكومات المتعاقبة لا تقتنع بالخطط الطويلة الأمد فتعمل على وضعها والشروع في تنفيذها، ولا تقتنع بحزمات اقتصادية خمسيه أوعشرية تعمل على تحقيقها، ولا تقتنع بخطط تنموية لكل محافظة كمشاريع سنوية تولد فرص عمل جديدة ، ولا تقتنع بالتعاقد مع الشركات الكبرى للمباشرة بإنشاء مشاريع متوسطة وصغيرة في المحافظات، ولا تقتنع بالمشاريع الإحلالية حيث تحل الصناعات الوطنية الجديدة محل المنتجات المستوردة، ولا تقتنع أن لها دورا في مساعدة الشركات المتعثرة حتى تخرج من أزماتها وتعود لتوظيف آلاف العمال، ولا تقتنع بضرورة إصدار “دليل الاستثمار والمشاريع الجديدة في الألوية” وتمويل أجزاء من هذه المشاريع من المنح التي تأتي من هنا وهناك، ولا تقتنع بإقامة شراكات مع القطاع الخاص لفترت زمنية محدودة ، ولا تقتنع بمساعدة صغار المزارعين من خلال تطوير الخدمات الزراعية لهم والمساعدة على تحسين آليات العمل من خلال التعاونيات والمراكز الزراعية والمشاتل والعيادات البيطرية والسدود الترابية الصغيرة. وباستثناء إنشاء محطة نووية غير مبررة اقتصاديا وتكنولوجيا وبيئيا ومائيا فإنها لا تقتنع بأي برنامج طويل المدى.
والحالة مرشحة للتفاقم نتيجة لـ ، أولاُ : استمرار غياب الرؤية الاقتصادية الاجتماعية لدى الدولة، والتركيز الدائم والمفرط على الموضوع المالي وعجز الموازنة .ثانياُ : عدم توجيه الاقتصاد وفق برامج مستقرة لتوليد فرص العمل، والاستعاضة عن ذلك بالمساعدات والقروض وتصدير القوى العاملة الأردنية إلى الخارج. وهي خسارة مزدوجة عميقة الأثر. ثالثاً : استمرار توجه الاستثمار والمستثمرين على مدى ألسنين، إلى أسواق العقار والمال والتي لا تولد فرص عمل دائمة، وترفع الأسعار خارج إمكانات الاقتصاد الوطني، وفوق “تحملية” المواطن. خامساُ : التركيز على التعليم الجامعي واهمال التعليم المهني والتكنولوجي. وفي نفس الوقت عجز التعليم عن التواؤم مع متطلبات السوق، أولا بسبب هلامية السوق واعتماده على التجارة بشكل أساس من جهة، ونوعية التخصصات والكفاءة والمهارات أوالمستوى العملي التطبيقي من جهة ثانية. .
ان “العقم في بنية الاقتصاد نفسه” يستدعي وضع وتنفيذ إستراتيجية وطنية لتغيير هذه البنية. ذلك أن العقار والمال والتعدين والتي تمثل 66% من الاستثمارات، وكذلك التجارة والزراعة والخدمات غير المتقدمة تكنولوجيا لا تستطيع أن تولد فرص عمل إلا في الحدود الدنيا، وتكون القيمة المضافة فيها متواضعة تماما. وعليه فليس هناك من فرصة فعلية للحد من الفقر والبطالة المتفاقمة، ولزيادة دخل الفرد الأردني سوى الإفادة من تجربة الدول الناهضة، وعلى النحوالآتي . أولاً : التوجه نحوتصنيع الاقتصاد، على غرار ما نجد في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. والعمل على دفع الصناعات الكبرى التي لديها ميزة نسبية وقدرة على توليد صناعات جديدة لتكون قواعد انطلاق لبرامج التصنيع . ثانياً: إن التعليم الأساسي والجامعي بحاجة إلى تطوير وتحديث واقتراب أكثر من الجوانب التطبيقية. كما أن التعليم المهني بحاجة إلى توسيع وتطوير ليصبح تعليماً تكنولوجياً متقدماُ. ثالثاُ : إن الوظائف المهنية والخدمية بصورتها البسيطة تتطلب تحديثات تكنولوجية جذرية تشترك فيها الجامعات والنقابات والمعاهد والقطاع الخاص رابعاُ : إن العمالة المحلية وخاصة في المحافظات تتطلب برامج للتنمية ، وكذلك أنظمة نقل وإسكان ورعاية صحية ، ينبغي للدولة ولمنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص أن يكونوا شركاء فيها . ودون مشاريع إنتاجية وصناعات إحلالية لن تتحقق تنمية المحافظات. خامساً : إن الاستثمارات الأجنبية ليست ذات قيمة إذا اقتصرت على شراء ما هوقائم من عقارات أومرافق أومصانع أومؤسسات. والمطلوب أن ينظم القانون الاستثمار الأجنبي ليقتصر على الإضافات الجديدة والإنشاء الجديد للمصانع والمرافق الإنتاجية. سادساً :إن تصنيع قطاع النقل من خلال السكة الحديد والتوسع في برامج الطاقة المتجددة ومحطات الصخر الزيتي من شأنها أن تولد فرص عمل لعشرات الآلاف.
إن إشارات الملك بالغة الخطورة والأهمية، وهي مرتكز الأمن الإنساني والاجتماعي، ومدخل لتفويت الفرص على التطرف والإرهاب. وليس لنا من حل سوى التغيير الجذري في التعامل مع الاقتصاد الوطني ومع تنمية الأرياف والبوادي والمناطق الفقيرة ووضع برنامج طويل الأمد للتصنيع الشامل يبدأ في المحافظات، حتى تستطيع الأجيال القادمة أن تبني بثقة وحيوية المستقبل الذي تستحق.