توقع كثيرون، وتمنى كثيرون، أن لا تنجح المبادرة الروسية من أجل حل سياسي للأزمة السورية. الذين توقعوا هم الذين يريدون وقف القتل والتدمير، اليوم قبل الغد، ويتطلعون الى حل حقيقي لم يروا ملامحه سواء في مراقبتهم ما يصدر عن موسكو ومبعوثها ميخائيل بوغدانوف أو في استقرائهم المواقف الدولية الاخرى. أما الذين تمنوا الفشل، وفي طليعتهم الايرانيون، فلا يريدون للمأساة القاسية التي يعيشها الشعب السوري أن تنتهي، طالما أنهم يحققون استفادة قصوى منها. لكن أحداً لم يستشرف شيئاً مشابهاً لهذا الموت الشنيع لـ «المبادرة» حتى قبل أن تبصر النور. ولا عزاء للذين راهنوا عليها ثم تبيّنوا أنها سراب، ولعلهم تعلّموا شيئاً من هذه التجربة.
لا شك في أن الجميع وقع في فخّ أن روسيا دولة كبرى، ولا يمكن أن تبادر إلا بعد أن تكون درست خطوتها مع جميع المعنيين. لكن طبع «الدب» الروسي غلب على تطبّعه، اذ لم يفطن الى أن دور الوسيط يستلزم انزياحه ولو قيد أنملة عن الانحياز لنظام بشار الاسد، بل اندفع الى ما هو أسوأ حين وجّه الدعوات الى الحوار الى أشخاص معارضين (بعضٌ منهم موالٍ جداً)، أي أنه تولّى بنفسه تشكيل وفد المعارضة، وعندما برزت اعتراضات أطلق العبارة الانتحارية القائلة إن الحوار «سيعقد بمن حضر»… حسناً فعل بالإنكشاف المبكر، فما أن أعلن «تيار بناء الدولة» (رئيسه لؤي حسين معتقل) رفضه صيغة الدعوة، حتى أصدر الرئيس السابق لـ «الائتلاف» معاذ الخطيب بيانه القوي الذي أجهز عملياً على المسعى الروسي، ثم نُشر مضمون رسالة حسن عبد العظيم المنسق العام لـ «هينة التنسيق الوطني» (اثنان من قيادييها معتقلان، عبد العزيز الخيّر ورجاء الناصر) الى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يطالبه فيها بتوجيه الدعوة الى كيانات سياسية لا الى أشخاص، وبالضغط على النظام لوقف القصف واطلاق معتقلين لإشاعة مناخ ملائم للحوار.
كانت روسيا عوّلت كثيراً على مشاركة معاذ الخطيب لإضفاء «شرعية» على تحركها، فهو من «معارضة الخارج» ولم يفوّت فرصة إلا دعا الى حقن الدماء والبحث عن حل حتى لو تطلّب التحدّث مع النظام، لكنه اشترط دائماً خطوات انسانية يبرهن فيها النظام «حسن النيّة». وتوقعت سيناريوات متصوّرة أن يكون الخطيب رئيساً مقبولاً لحكومة «مختلطة» قد تنبثق من حوار موسكو، لكن الرجل لم يبدِ ولا مرة سعياً الى أي منصب. وعندما دعي لزيارة موسكو بحث وشاور ثم قرر التلبية برفقة وفد صغير (يقال أنه سافر على حسابه) ليسمع ويتأكد بأن ثمة مبادرة في الأفق، لكنه فوجئ حين أبلغه بوغدانوف أن لافروف سيستقبله ليسمع منه «بلا مناقشة». وعرض الشيخ معاذ أفكاره انطلاقاً من توجّهه المعروف، كما كرّره في بيانه الأخير قائلاً أن»لا حل من دون رحيل رأس النظام والمجموعة التي ساقت سورية الى المصير البائس الذي وصلته اليوم». لكن لافروف سأل «اذا رحل الاسد فماذا ستفعلون، ومن سيضبط المقاتلين؟». كان ذلك اشارة واضحة الى أن الموقف الروسي لم يتزحزح، لكن كان لا بدّ من انتظار الصيغة التي سيُخرج بها دوره كـ «وسيط».
ها هو قد أخفق تماماً، اذ قاده تبنّيه شروط النظام والشروط الايرانية الى افتضاح «مبادرته». كان كثيرون راهنوا عليها، آملين بأن تكون هادفة ومتوازنة، إلا أن الوقائع بيّنت أنها استهدفت أمرين: 1) استغلال احباطات المعارضة وتشتتها وخلافاتها لتذويبها في اطار رخوٍ يسهل دفعه الى تسوية هزيلة قوامها بضعة حقائب وزارية. 2) نسف مرجعية «جنيف 1» ونصّها على حكم انتقالي لمصلحة «حوار موسكو» كمرجعية جديدة… وبما أن الهدفين يصبّان في مصلحة النظام فقد فُهم أن حليفيه (روسيا وايران) يسعيان الى اعادة ترميمه، فأوضاعه هو الآخر لا تقل اهتراءً عن أوضاع المعارضة. وأياً تكن تمنيات الحلفاء والخصوم فإن فرصة حل يبقي رؤوس النظام فاتت منذ زمن، اذ لم يعد خياراً ولا يمكن فرضه أو تمريره.
صحيح أن الدعوة الروسية أشارت الى بيان «جنيف 1» لكنها ركّزت على «مكافحة الارهاب»، أي عودة الى صيغة جاء بها وفد النظام الى مفاوضات جنيف، والى صيغة توفيقية اقترحها الاخضر الابراهيمي ولم يقبلها النظام لأنها تضع البحث في «هيئة حكم انتقالي» بموازاة مكافحة الارهاب. لكن موسكو خططت عملياً لحوار من دون أجندة تسهيلاً للتلاعب بالأولويات، وفي تقديرها أن «أصدقاء سورية» انقرضوا تقريباً، وأن المواقف الاميركية دفعت المعارضة الى اليأس اذ تبدو واشنطن متخلّية عن التزاماتها تجاه المعارضة وأكثر اهتماماً بتلزيم قطع الملف السوري وتوزيعها كـ «مصالح» على الأطراف الاقليمية، وهذه صارت بدورها مهتمّة بالحصص التي تحصّلها. لذلك اعتبر الروس أن الفرص سانحة لتغيير قواعد اللعبة ومعايير الحل السياسي، بالاستناد شكلياً الى «جنيف 1» والاعتماد عملياً على موازين القوى على الأرض.
عندما بدأ الحراك الشعبي لم يكن هناك ميزان القوى اصلاً، بل كان النظام بكامل قوته، وقد استخدمها، ولم ينجح في اخماد الانتفاضة، وحتى عندما تعسكرت هذه قسراً ظل التفوّق الناري للنظام، ثم عندما مكّنه الايرانيون من استعادة بعض المناطق بدت انتصاراته توكيداً لاستحالة بقائه، كما هي حاله اليوم. والفارق كبير بين تسوية على أساس موازين القوى يفرضها الغازي المحتل، وبين حل سياسي يقوم على تنازلات متبادلة ويرمي الى صيغة تنصف الشعب وتحصّن التعايش بين فئاته. لذلك برقت الآمال عندما طرحت المبادرة الروسية، لعلها القاطرة الملائمة للنظام كي يقدّم تنازلاته، لكن هذا كان مجرد وهم لأن البنية النفسية للنظام تمنعه من تقديم أي شيء خيّر لشعبه. وفيما باتت «المبادرة» مترنحة ظهرت تكهّنات بأن النظام قد يقوم بخطوة لانقاذها، كأن يُفرج عن المعتقلين أو العدد الأكبرمنهم، ولو من قبيل «احراج» المعارضة، فهل يفعل؟
كانـت المعـــارضة وافقت على الذهاب الى حوار على أساس «جنيف 1»، لكنها رفـــضت أن تختار موسكو المشاركين فيه بناء على «فيتو» النظام على كيانات وأشخاص محددين. في أي حال يُحسب لموسكو ما لم تتقصّده أصلاً، ذاك أن «الحصانة» المبدئية التي أمّنتها لوجوه معارضة الداخل مكّنت هذه من فتح حوار جدّي مع معارضة الخارج، بل أتاحت لهما بلورة تقارب في الرؤى. وهذا معطى جديد يُظهِر للمرّة الأولى أن عناصر «الحل» الذي يطمح اليه «الائتلاف» و «هيئة التنسيق» يمكن أن تكون واحدة. أي أن التحضير لحوار موسكو أدّى الى فرز واضح بين قوى المعارضة المتبنية لمطالب الشعب وتلك المدجّنة أو الموالية (قدري جميل، على سبيل المثال) التي طلب حسن عبد العظيم من لافروف أن يصار الى ضمّها الى وفد النظام. ومن الواضح أن جميع كيانات المعارضة الحقيقية مدركة أن كل ما استطاعت الحصول عليه، وبثمن باهظ جداً، هو ورقة «جنيف 1» التي أُثبت مضمونها في القرار 2118 (المتعلّق بـ «صفقة» تدمير ترسانة السلاح الكيماوي) وأكتسبت بذلك «شرعية» دولية.
ولعل هذه الروح الجديدة التي انبعثت من عثرات المعارضة هي التي شجعت الخارجية المصرية على المضي في عزمها على دعوة كياناتها الى حوار موسع للاتفاق على رؤية موحدة للحل السياسي. لكن مصادر المعارضة دعت الى معالجة الاعتراض على دعوة ممثلي «الاخوان المسلمين» و «اعلان دمشق» الى حوار القاهرة، ففي أفضل الأحوال سيُعتبر إقصاؤهم رضوخاً لرغبة النظام الذي يعتبرهم أدوات للدور التركي، ويحمّلهم مسؤولية تحريك الانتفاضة الشعبية ثم انشاء «المجلس الوطني» كأول كيان للمعارضة في الخارج.
* كاتب وصحافي لبناني