منذ بدايات صيف هذا العام، ومع ازدياد عدد المواجهات الموضعية في الضفة الغربية، واشتداد وتيرة العمليات ذات الطابع الفردي في مدينة القدس ومحيطها الجغرافي، ارتفعت حدة السؤال عن الانتفاضة الثالثة، لدى الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين. إذ لا يكاد يمر يوم واحد من دون أن يعثر المرء على مقال أو تصريح، إن لم نقل نبوءة، في مختلف وسائل الإعلام الصادرة على جانبي الصراع، تتحدث في معظمها عن نضوج الظروف الموضوعية اللازمة لانطلاق انتفاضة ثالثة، طال ترقب حدوثها.
وقد ألهبت عمليات الدهس والطعن وإطلاق النار، رداً على قتل الفتى محمد أبو خضير وحرقه، خيال الراغبين في استعادة مشاهد تلك المواجهات الجماهيرية المنظمة التي ميزت الانتفاضة الأولى العام 1987، وأدت إلى حدوث أهم تحول في مجرى الصراع التاريخي؛ بقيام أول سلطة فلسطينية عقب مفاوضات أوسلو، لاسيما وأن هذه العمليات المتفرقة، رافقتها مجابهات شبابية، أعادت إلى الأذهان ذكريات تلك الملحمة الشعبية المجيدة في مقاومة احتلال بغيض، بدا وكأنه بلا ثمن ينبغي على المحتلين دفعه.
إلا أنه رغم كل الحماسة التي أبداها المتشوقون لقيام مثل هذه الانتفاضة، فقد ظل نطاقها محصوراً في مدينة القدس وفي ضواحيها وأحيائها المجاورة؛ إذ أخفقت كل الدعوات الحارة عبر الشاشات، وسائر المحاولات أحادية التنظيم، في نقل مواجهات القدس إلى الضفة الغربية، وتحويلها إلى حالة فلسطينية عامة تكون جديرة حقا بلقب الانتفاضة، والتي بقيت، مع الأسف، مجرد تمنيات عصية على التحقق، حتى في ذروة العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، الذي دام أكثر من خمسين يوماً.
كان من السهل على كثير من المراقبين رد سبب بقاء مظاهر الهبّة محصورة في نطاق القدس، إلى ممانعة السلطة الوطنية الفلسطينية، وإلى ما يعرف بالتنسيق الأمني. ومع أنه لا يمكن دحض هذا التعليل بالكامل وإنكاره تماماً، إلا أن ذلك لا يجيب عن السؤال المتعلق بأسباب عدم تماثل الأكثرية الكاثرة في الضفة الغربية، مع مظاهر الاحتجاجات الجارية في القدس، ناهيك عن أسباب عدم انجرار “السلطة” وناسها وراء عواطفهم الملتاعة تجاه مشاهد القتل وصور الدماء والترويع في قطاع غزة.
وأحسب أن مرد مثل هذا الاستنتاج المبسط، حول أسباب عدم اندلاع انتفاضة جديدة، يتغافل عن حقائق جديرة بالانتباه، ليس أقلها شأناً هذا الانقسام السياسي المديد، وذلك التربص الكامن بين جانبي هذه الحالة الشائنة. ويبدو من الواضح أن هناك سبباً أدعى إلى وضعه في موضع القلب من هذا السجال الساخن، وهو أن حصاد الانتفاضة الثانية العام 2000 كان وبالاً على الفلسطينيين؛ سواء لجهة الخسائر البشرية والاقتصادية، أو لجهة الخسائر السياسية. إذ أدت تلك الانتفاضة المسلحة إلى إقامة جدار الفصل العنصري، وكادت تقوض السلطة الوطنية بالكامل، من دون أن تسفر عن نتيجة إيجابية واحدة.
وإذا كان لهبّة القدس الأخيرة أن تبعث ببعض البشائر على إمكانية تحولها إلى انتفاضة شاملة، خصوصاً بعد اقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى، والذي أطلق شرارة الانتفاضتين السابقتين؛ فإن عملية قتل المصلين في كنيس بالقدس الغربية، أتت بمثابة ضربة إجهاض ذاتي، قوضت تلك الروافع الضئيلة لإطلاق انتفاضة جديدة واسعة، خصوصاً أن هذه العملية أتت كانتقام يشفي غليل الكثيرين، إلا أنها بدت ناشزة ولا سابق لها في تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصرة، التي لم ترتكب ولو لمرة واحدة مثل هذه الفعلة التي لا تليق إلا بقطعان المستوطنين القتلة، و”بوكو حرام”، وحركة “الشباب المجاهدين” الصومالية.
لقد كانت ارتدادات عملية قتل المصلين اليهود، التي لم يتم تبنيها من جانب أي تنظيم فلسطيني، بما في ذلك الجبهة الشعبية، التي باركت هذا العمل، وحسناً أنكرته بعد ساعة واحدة من إعلانها عن أبوته، ارتدادات سلبية بالجملة، لعل في مقدمتها ذواء شرارة تلك المواجهات الواعدة في القدس من تلقاء نفسها، وقطع الطريق على أي محاولة جادة لتشكيل مناخ سياسي مواتٍ، وتأسيس بنية تنظيمية ملائمة، للبناء على مظاهر انتفاضة المقدسيين والاستثمار فيها، خصوصاً أنها كانت تجري في المكان الذي لا يوجد فيه من يتحمل التبعات الأمنية والسياسية، سوى الاحتلال نفسه.
عيسى الشعيبي/سؤال الانتفاضة الثالثة
9
المقالة السابقة