ما حدث في قمة الرياض يوم الأحد الماضي وأدّى إلى إعلان موعد لانعقاد القمة الخليجية في الدوحة مطلع الشهر المقبل أنقذ «مجلس التعاون الخليجي» من التفكك، وعزز احتمالات إنشاء اتحاد خليجي زائد مصر والأردن والمغرب، وأوحى بأن قطر اعتمدت سياسة جديدة نحو مصر ودول مجلس التعاون و «الإخوان المسلمين». هذه تطوّرات مهمة جداً لها أبعاد وإفرازات على مسيرة مجلس التعاون، وعلى الأمن الإقليمي، وكذلك على التحالف الدولي ضد «داعش» وأمثاله، وعلى هوية الاعتدال التي تعلنها قيادات دول المجلس في وجه التطرف والإرهاب. قمة الدوحة التي سترأس قطر خلالها مجلس التعاون للسنة المقبلة لن تكون اعتيادية، لا من جهة المواضيع المطروحة أمامها، ولا من جهة مواقف والتزامات القيادة القطرية الجديدة الشابة المتمثلة بالشيخ تميم بن حمد آل خليفة. وما حدث في قمة الرياض شهادة على حكمة كل من العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز وأمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح الذي ترأس القمة الخليجية لهذه السنة. فقد كانا يرأبان الصدع ويضعان المصالح الكبرى فوق الاختلافات، وهما يقدّمان إلى الأمير الشاب خطة الطريق إلى انعقاد القمة في الدوحة وإلى رئاسة متميزة في أوقات مميّزة. ومن بين الذين راقبوا جيداً قمة الرياض وسيراقبون عن كثب قمة الدوحة ليس فقط قيادات الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا والصين، بل أيضاً مرشد الجمهورية في إيران آية الله خامنئي والرئيس الإيراني حسن روحاني، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. فالمسألة تدخل في مستقبل موازين القوى الإقليمية ودور مجلس التعاون الخليجي في هذه الموازين.
أول المستائين من آفاق التقارب في الصفوف الخليجية هو أردوغان الذي اعتبر علاقته المتميّزة مع القيادة في قطر، لا سيما مع الأمير الأب الشيخ حمد، ضماناً لاستمرار مشروع «الإخوان المسلمين». كان حرصه على علاقة خاصة مع قطر ينطلق من أن دعم «الإخوان» يعني الانشقاق الدائم في صفوف الدول الخليجية ومستقبل مجلس التعاون. وهذا ما وجده أردوغان مريحاً جداً له، أولاً، لأن الانشقاق في الصفوف العربية مفيد لصعود تركيا إقليمياً وتوطيد موقعها في موازين القوى. وثانياً، لأن مشروعه الذي يرتكز على صعود «الإخوان» إلى السلطة في كامل المنطقة هو عربته إلى إحياء العثمانية.
قطر تنفي أن تكون راعياً ومموّلاً لتنظيم «الإخوان المسلمين» الذي تعتبره السعودية ودولة الإمارات وسيلة لمؤامرات ضدهما وضد المنطقة ككل. وهما عازمتان على منع صعوده إلى السلطة أين ما كان في المنطقة العربية. في عهد الأمير الأب، تردد كثيراً أنه شخصياً من الداعمين لـ «الإخوان»، ونقلت المصادر أنه لم يخفِ ذلك في المحافل السياسية المغلقة. في عهد الأمير الابن، بدأ الابتعاد قليلاً عن «الإخوان المسلمين» على نسق مغادرة بعض قياداتهم الدوحة، مع أن بعضها عاد إليها كما نُشِر.
الذي لم يحدث إلى حين قمة الرياض تمثّل في استمرار دعم دولة قطر قناةَ «الجزيرة مباشر» وهي الصوت المعارض للرئيس عبدالفتاح السيسي. وطالما كان الأمير الابن ملتزماً المضي بالقناة التي أنشأها الأمير الأب، فقد استمرت الشكوك حول تسلّمه حقاً مفاصل السلطة.
عنوان قمة الرياض اختُصِر بكلمة واحدة هي «المصالحة». عنوان قمة الدوحة يتضمن، عملياً، إطلاق الفصل الجديد في مسيرة مجلس التعاون الخليجي وسيرتكز على «تنفيذ الالتزامات». فما تم في قمة الرياض شمل الالتزامات الخطية بالأولويات التي تم الاتفاق عليها، وعلى رأسها وقف الحملات الإعلامية القطرية ضد مصر، وإصلاح العلاقات مع دول مجلس التعاون بدءاً بوقف التجنيس الذي أكدت البحرين لاحقاً أنه بدأ، وانتهاءً بفهم الأولوية القاطعة التي توليها السعودية والإمارات لوقف الدعم القطري لـ «الإخوان المسلمين».
هذه الالتزامات ستشكل نقلة نوعية في السياسة القطرية عند تنفيذها وسيكون لها انعكاس كبير على موقع قطر إقليمياً وعلى النظرة الخليجية والعربية للقيادة القطرية. فليس سرّاً أن سياسات قطر قبل تولّي الشيخ تميم بن حمد السلطة بعدما تنازل له الأب الشيخ حمد عنها – أثارت التساؤلات وخلّفت الغضب والعتب.
بدأ التغيير ببطء منذ تولي الشيخ تميم السلطة، بل هناك من يعتقد أن تنحي الأب هو جزء من مسيرة التغيير بعدما تضاعفت الانتقادات الإقليمية والدولية للسياسات القطرية. كثير من القطريين شجّع الأمير الشاب على وقف سياسة التدخّل في دول المنطقة. رأي هؤلاء هو أن قطر لم تحصد سوى اللوم وبات تدخلها يحشد الرأي العام العربي ضدها ويطرح التساؤلات حول غاياتها.
عندما زار الشيخ تميم نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الخريف، تحدث بلغة أفادت بالمزيد من التغيير، لا سيما عندما خاطب مؤسسة فكرية في نيويورك (راجع هذا المقال الأسبوعي بتاريخ 17 تشرين الأول/ أكتوبر). كان عازماً على إقامة العلاقة الجيدة مع السعودية ومع بقية دول مجلس التعاون.
كان مجلس التعاون على وشك التفكك لو لم يتم الاتفاق في قمة الرياض على عقد قمة الدوحة في التاسع من الشهر المقبل. عمان لم تحضر قمة الدوحة. وفي السنة الماضية، وقبيل انعقاد القمة الخليجية في الكويت، وقعت أزمة ديبلوماسية بين السعودية وعُمان ثم تمت حلحلتها في قمة الكويت، إنما أساس الخلافات بقي قائماً وزاد من حدته دور عُمان في استضافة المفاوضات السرية بين الولايات المتحدة وإيران.
قطر ساعدت في إنقاذ مجلس التعاون الخليجي من التفكك بقرار أميرها البقاء بفاعلية في هذا المجلس والموافقة على مسيرة جديدة له. فبعد تلبية أمير قطر الشاب مبادرة أمير الكويت الشيخ صباح وموافقته على رغبة الملك عبدالله في تسوية الخلافات، فإنه أعطى جرعة كبيرة للمسيرة نحو الاتحاد الخليجي. والأرجح أن تعمل القيادة القطرية على تشجيع عُمان على البقاء في السرب الخليجي بدلاً من الانفصال عنه.
هناك أسباب عدة وراء اتخاذ الشيخ تميم بن حمد هذه المواقف من ضمنها، بالتأكيد، قرار السعودية والإمارات والبحرين سحب سفراء الدول الثلاث من الدوحة احتجاجاً على سياسة قطر. الاتفاق في قمة الرياض أسفر عن عودة السفراء إلى الدوحة وأعطى قطر فرصة استضافة القمة الخليجية، والتي ما كانت لتنعقد في الدوحة لو لم تنعقد قمة الرياض.
لعل من بين الأسباب وراء المواقف القطرية الجديدة، أن الكونغرس الأميركي تحت سيطرة الجمهوريين وعد بشن حملة ضد قطر بسبب علاقاتها بالتنظيمات المتطرفة. ولعل نمو الغضب الإسرائيلي من دعم قطر لحركة «حماس» واتهامها لها بتحريض التطرف في المنطقة أدى بالدوحة إلى اتخاذ قرار باستدراك تداعيات هذه الحملة.
إنما ما يبدو أنه رائد بين الاعتبارات وراء تغيير السياسة القطرية هو أن التهديدات لقطر كبرت مع نمو قوى التطرف مثل «الداعشية» التي لم يعد ممكناً إدارتها مثل التنظيمات الأخرى. ثم هناك عنصر الأمن القومي والإقليمي الذي قررت الدوحة التعامل معه بصورة عملية وبراغماتية.
الاتفاق في قمة الرياض على النهج الجديد لقطر مهم أيضاً، لأن دول مجلس التعاون الأخرى منخرطة جدياً في التحالف الدولي ضد «داعش» والإرهاب فيما كان الدور القطري تجميلياً تقريباً. الولايات المتحدة في حاجة إلى نجاح هذا التحالف ولم تعد ترضى بمجرد إضافة اسم قطر كدولة من دول التحالف. فهي أرادت أكثر وطالبت بالتنفيذ والوضوح.
الاتفاق في قمة الرياض يتزامن أيضاً مع مرور المفاوضات النووية مع إيران في أخطر مراحلها ومحاولات إنقاذها في مسقط قبل انتقالها إلى فيينا، ثم إلى جنيف في 24 الشهر الجاري. فالرسالة الخليجية واضحة وهي أن الساحة الإقليمية لا تتحمل العبث، وأن دور مجلس التعاون هو ضخ الاعتدال في وجه التطرف، وأن لا مجال لترتيبات أمنية بديلة عن مجلس التعاون.
للمفاوضات النووية مع إيران تأثير مباشر في دول مجلس التعاون فيما لو نجحت أو فشلت أو تأرجحت بين اللافشل واللانجاح. إنما هناك طرف آخر يتأثر بمسيرة المفاوضات الجارية المعروفة بـ5 + 1 هو الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي ربط قدرته على إنجاح المفاوضات بسمعته الملتصقة بالاعتدال. فحتى الآن، يبدو روحاني خاسراً أمام المحافظين المتشددين، ويبدو الاعتدال في طريقه إلى الانحسار داخل إيران، وقد تؤدي الخلافات على المفاوضات النووية إلى مواجهات داخلية في إيران.
إيران ستكون الحاضر الغائب عن القمة الخليجية في الدوحة. أما مصر فستكون الحاضر الحاضر في قمة الدوحة لأن أساس التفاهمات الخليجية هو المسألة المصرية ببعد «الإخوان المسلمين» كما ببعد مكانتها في الموازين الإقليمية.
قطر أدركت جدية السعودية والإمارات في قطع الطريق على توليها قيادة مجلس التعاون لعام 2015 لو بقيت على سياساتها نحو مصر. أدركت أنها في حاجة لحسم سياساتها، فاختارت التغيير. وجدت في قيادة مجلس التعاون مصلحة كبيرة لها في فترة مصيرية كهذه وفرصة لها لإعادة رسم وهيكلة توجهاتها. وأولى الخطوات العملية ستتمثل في توديع الشراكة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في صدد «الإخوان المسلمين» مع فتح صفحة جديدة مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.