عروبة الاخباري – خاص – كتب سلطان الحطاب – عرفات ليس قائداً عادياً ولا زعيماً عابراً وانما هو ابرز رموز الكفاح الفلسطيني المعاصر اذ اعاد وضع الحالة الوطنية الفلسطينية في صيغة نضالية في التداول الفلسطيني والدولي، وقرب فلسطين لتكون دولة وتلامس حق تقرير المصير..
القيمة الكبيرة لرمزية عرفات أنه اعاد استزراع الحلم الفلسطيني . فقد ظل يبشر به وسط حالة الضياع الفلسطيني التي اعقبت النكبة عام 1948 حين كانت رئيسة الوزراء الاسرائيلية جولدا مائير في الخمسينيات ومن موقعها السابق تسال مستنكرة ” اين هو الشعب الفلسطيني ” ؟؟ ..
اهمية وعظمة أي قائد تاريخي هو أن يزرع الحلم في نفوس أبناء شعبه وأن يلهمهم أهدافهم الوطنية ليحرك فيهم الارادة باتجاه تلك الاهداف ..
وحين كان الراحل عرفات ومنذ فجر الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 في الاول من يناير قد صاغ ذلك الحلم ولخصه في عبارة جميلة حين ” يرفع طفل فلسطيني علم فلسطين على الاقصى ” .. وحتى ترفع زهرة العلم الفلسطيني على المسجد الاقصى” .. وقد جاء ذلك في سياق ” الثورة حتى النصر “..
عرفات الذي قال ” لا اريد ان اكون جيفارا ” و كان يتحدث لي قبيل مؤتمر مدريد وبعد ان واجه حادثة سقوط طائرته في الصحراء الليبية .. قال : ” اريد شيئاً لشعبي” .. كان في ذهنه دولة فلسطينية مستقلة وحق تقرير المصير .. كان ياخذ بشكل آخر من اشكال النضال والمقاومة والكفاح .. كان يقدم برنامج منظمة التحرير الفلسطينية ويعمل على اعادة وضع فلسطين على الخارطة ..” نعم أريد شيئاً لشعبي” وكررها.. لم يكن مأخوذاً بالشعارات البراقة .. كان يريد ان يورث كفاحه متعدد المستويات لطلائع شعبه وقيادتهم ..
وعرفات الذي كرس حياته لقضية شعبه وتحرير وطنه لم يتوقف لحظة واحدة حتى فاضت روحه . فقد عرف السجون والمطاردة ومحاولات الاغتيال واغلاق الحدود في وجهه كما عرف كيف يتجنب سياسات المحاور والاستقطاب في علاقات عربية معقدة ومتباينة التبعية والرؤية . ظل دائما بحاجة للتعامل معها وفق سياسة المشي على الحبل او امساك العصا من المنتصف..
استطاع الرئيس الراحل عرفات وبعمله ان يكرس لنفسه صورة المناضل المتفاني والمخلص في نفوس ابناء شعبه الذين جرى اقتلاعهم من وطنهم وتبديدهم وفرض ولاءات مختلفة عليهم في المنافي وقد ظلت هذه الصورة حية في نفوس الاجيال التي تخرج اليوم في ذكرى رحيله العاشرة لتتذكره وتكرس رمزيته في نفوسها..
كان عرفات جامعا مشتركا اعظم لكل الوان الطيف الفلسطيني.. فصائل وفكر وسياسة وتيارات وقد ظل يرى في جميع القوى الفلسطينية التي كان شرطه عليها ( الوطنية) ابناء لفلسطين لا يميزهم عن فتح سواء كانوا في التيارات الاسلامية ام القومية او حتى الليبرالية ..
كان عرفات قائدا تاريخيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فيه تكوين الثائر والمناضل والسياسي والانسان والشعبي؛ الذي كان يقبل رؤوس الاطفال وايديهم ويواسي المرضى والجرحى ويزورهم ويعبر المخيمات ليتاكد من اوضاع ساكنيها.. كان بسيطا في طعامه وشرابه وملابسه التي انفرد بها وميزته وميزها.. كما استطاع عرفات بشخصيته الكارزماتية ان يبني شبكة علاقات دولية عريضة ومنوعة يحملها هم قضية شعبية فكان حليفا لثوار عصره الذين تاثروا به وثمنوا دوره وقيمته في الصين وفيتنام وكافة حركات التحرر الوطنية في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية..
ولم يضع عرفات تابو على علاقاته مع الدول الغربية ولا حتى تلك التي كان لها دور في ولادة اسرائيل والاعتراف بها .. كان يدرك دائما ان عدالة قضيته اقوى وارسخ من اي سلاح وانها قضية عادلة لوسار بها طفل لنصرته ولكن كانت المعادلة صعبة لجهة ان اسرائيل ربيبة الاستعمار – والامبريالية الغربية وتعبير الحركة الصهيونية العالمية هي الطرف الاخر في مواجهة الشعب الفلسطيني فقد جاءت الغزوة الصهيونية منذ بداية القرن الماضي مدمجة بالسلاح والمال والتاييد السياسي مقابل عالم عربي متصارع ومنقسم وغير قادر على ان يحمل القضية المركزية حيث يقربها من اهدافها ..
كان عرفات وسط كفاحه الشرس مع اعداء وطنه وشعبه يدرك انه مشروع شهيد وان كل يوم يمر لا يستشهد فيه هو اضافة للبناء ولكفاح شعبه الذي ورثه مسيرة قادرة على المواصلة ولا يستطيع احد ان يلغيها او يعيد تعتيمها ..
آمن عرفات بشعبه واخذ دائما بالحوار حتى في ” غابة البنادق” كما ظل يقول وحين كان يُطالب بالمزيد او يجد من يضع العصى او يزايد عليه من اخوانه كان يقول ” سكر زيادة” ..
كان صلبا في الحرب والصدام مع العدو وقد شهد له اعداؤه بذلك في اكثر من موقع وموقف وفي بيروت ومواقع اخرى ومنذ بداية نضاله في السويس لطرد الانجليز من مصر وقد كان متطوعا ومرورا الى الكرامة التي زرع فيها بذرة الصمود وقاتل مع النفر القليل المؤمن الذي اطلق شرارة رد الاعتبار للعرب بعد هزيمة حزيران عام 1967 المرة ..
ووصولا الى مواجهة شارون في بيروت بعد معارك ” ارض فتح ” في جنوب لبنان . والى يوم الرحيل المشرف الى تونس على طريق العودة الى الوطن من مدخل غزة ..
كل الذين نقدوا عرفات ونالوا منه وهاجموه واعترضوا على مسيرته عادوا فاعتذروا له او نقدوا انفسهم او ترحموا عليه انسانا ومسيرة فقد كان قامة عالية لم يستطع المتربصون النيل منها..
كانت رؤية عرفات بعيدة المدى تاخذ بالاسباب وترى ان العالم شريك وقد يكون بعض مواقف دولة شريكة في دعم نضال الشعب الفلسطيني . فقد ظل الايمان يعمر صدره بعدالة قضيته ولم يتسرب الياس الى نفسه حتى في اكثر اللحظات حلكة وقسوة حين كان محاصرا من اسرائيل في المقاطعة لاشهر ارادوا فيها عزلة ولكن لم ينالوا منه ولم يرفع راية بيضاء او يستسلم فقد حول المقاطعة الى خلية ثورية شدت انتباه العالم وكانت المرارة ان العالم العربي وقادته الذين دفعوا الثمن لاحقا في تراكمات الربيع العربي كانوا يتفرجون ولم يفعلوا الكثير لكسر الحصار عنه خاصة حين عقدوا قمتهم في بيروت التي اصدرت المبادرة العربية وكان عرفات قد خاطبهم بالفيديو.. لقد كان مخذولا ولكن ذلك لم يخلق عنده ردة فعل ولم يخرج عن سياق العمل الثوري الذي كانت بعض الثورات او الحركات تخطئه فتمارس الارهاب لتقع في شباكه..
سيرة حياته تستحق تدوينا عالميا فهي من السير النادرة فقد عاش مناضلا ورحل شهيدا وهذا اعلى ما يتمناه قائد ثوري.. ولان اسرائيل لم تستطع ان تجعل منه شخصية تقبل روايتها في القدس والحرم القدسي فقد اغتالته بعد ان هددت وقد ادرك ذلك في محادثات كامب ديفيد الفلسطينية الاسرائيلية التي تمت برعاية اميركية وبمشاركة الرئيس الاميركي بيل كلنتون فقد كان يخرج ليتصل بالقادة العرب حين كانت القدس تشرّح على طاولة المفاوضات ولكن لم يكن في نداءاته يسمع حياً ولذا عاد لاصراره وتحمل مسؤولياته وقال ان عليهم ان يحضّروا له جنازة وكانت هذه النبؤة صائبة حين افشل ما تطلع له اعداؤه منه بخصوص القدس ولم يلوث اسمه او سمعته ولم يستطع احد ان يزايد عليه ..
يرحل عرفات فيملأ استشهاده السمع والبصر ويستقبل جثمانه في رام الله استقبال العظماء فقد جاءته فلسطين لتودعه لانه حملها في قلبه وارادته وازاح عنها ركام النسيان والخذلان..
وقد سهر العالم على طريقة اغتياله ومازال الاغتيال الذي دبرته اسرائيل يشكل حالة كتلك التي رحل بها الحسين في كربلاء او تلك التي صاحبت رحيل غيفارا او عبد الناصر..
كان رحيله مفجعا وقد تخثرت سيرته في دماء الفلسطينيين ورافقت نبض قلوبهم واصبح الرحيل الذين سببه اغتياله وشما في تاريخ فلسطين لا ينمحي الا باعادة الاعتبار له وشعبه ولن يكون ذلك عزيزا على شعب عظيم علمه عرفات كيف يصنع من المخيم جيلا يقاوم ومن صفائح الزينكو وبطاقات المؤن قادة عظاما رافقوه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ولكنهم مازالوا خلفه ومن بعده يحملون الراية ويهتفون ليوم الانطلاقة ويواصلون مسيرة الكفاح التي تتقدم بشكل يحاصر اسرائيل ويزيد من عزلتها في كل المحافل الدولية وامام العالم..
الراية .. راية عرفات راية فلسطين مازالت مرفوعة ويحملها من يدرك ان الصلابة صفة فلسطينية لا تفارق الموصوف المناضل .
عشر سنوات تمضي على رحيله الذي كانه امس فرصيده في النضال مازال متوقدا لا ينطفىء .. ومازال الذين عاشوا معه او جاءوا من بعده من الاجيال تحفظ عرفات صورة وسيرة ومازال خلفه الرئيس محمود عباس يواجه نفس التهديد لانه مازال يشير الى نفس الاهداف التي اشار اليها عرفات وكرسها ..
فسلام عليك يا ابو عمار .. يوم ولدت ويوم رحلت ويوم تبعث حيّاً..