عيسى الشعيبي/وددت لو كنت مخطئا

وفق ثقافتنا التربوية السائدة في البيوت والمدارس، وبحسب تقاليدنا المتداولة في المجال العام، يعتبر النقد الذاتي عيباً ينم عن ضعف الشخصية، مع أنه فضيلة لا يقدر على ممارستها سوى قلّة قليلة من أصحاب الشمائل ذوي العقول الكبيرة. في المقابل، يُنظر إلى مبالغة المرء في الاعتداد بصحة موقفه، وتباهيه بصواب وجهة نظره في مسألة كانت خلافية، تم البت فيها في وقت لاحق، على أنه أمر مشين لصاحبه، ومدعاة لجلب النفور حياله، خصوصاً إذا رفع أحدهم عقيرته قائلاً: ألم أقل لكم ذلك من قبل؟
أحيانا، يتمنى المرء في سره أن يكون اجتهاده خاطئاً، في معرض توقعاته المتشائمة إزاء تطورات واقعة متفاعلة، لاسيما إذا كان الأمر يعاكس هواه الخاص. أما أن يقر علناً، وبحبر القلم الأزرق، أن الحق جانبه، وأن محاوريه كانوا أكثر حصافة منه، فذلك هو الاستثناء اليتيم على القاعدة المستقرة، ليس لدى الكتّاب المعوّلين على ضعف ذاكرة المتلقين فقط، وإنما أيضاً لدى المسؤولين الذين لا يخطئون أبداً، ولا يقصرون في أداء الواجب.
أسوق هذه المقدمة المطولة، بين يدي التطورات الأمنية الأخيرة في قطاع غزة، كي استحضر مساجلة جرت مع صديق عزيز احترم وجهة نظره وأُجلّه؛ حين أبديت، قبل نحو شهرين، درجة عالية من التشاؤم حيال مستقبل عملية المصالحة الفلسطينية. حيث هجم عليّ محاوري لمدة ربع ساعة متواصلة، من دون أن أقاطعه بكلمة واحدة، وذلك لمعرفتي المسبقة بنقاء طويته ونبل دوافعه الوطنية، قائلاً لي إنني أنكأ الجراح القديمة، وأبدو كمن يضعف المعنويات، بدل أن أشجع على عقد الرهان على أي بادرة تصالحية تلوح في الأفق.
منذ تلك المحاورة السريعة العاصفة، بقيت أشعر بشيء من الذنب، ورحت أتمنى في قرارة نفسي أن أكون على خطأ في كل ما يتعلق برؤيتي المتشائمة لمستقبل حالة الانقسام الداخلي الفلسطيني المستشرية؛ وذلك إلى أن وقعت واقعة التفجيرات الخمسة عشر المتزامنة في قطاع غزة، عشية إحياء الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاد أبي الوطنية الفلسطينية، الراحل ياسر عرفات. فكدت أرفع سماعة الهاتف لأقول للصديق العائد لتوه من رحلة أوروبية طويلة: أرأيت أن افتراضاتي، مع الأسف، كانت في محلها!
والحق أنني لست مبتهجاً بصحة ما كنت أعتقده طوال السنوات السبع العجاف الماضية؛ من أنه لا وجود لقواسم مشتركة يعتد بها بين المشروع الوطني الفلسطيني الاستقلالي وبين مشروع الإمارة في غزة؛ وأنه ليست هناك تقاطعات بين مرجعيتين، إحداهما أصولية. ومن ثم، فإن كل ما يجري الحديث عنه من توافقات ومصالحات هو مجرد تكاذب سياسي ومخاتلات فصائلية، سرعان ما ينكشف زيفها عند أول اختبار جدي، خصوصاً أن الكؤوس قد امتلأت بالمرارة، وطفحت بخيبات الأمل الشديدة السابقة. ومع الأسف مرة أخرى، فإن واقعة التفجيرات المنسقة الأخيرة تصادق على صحة كل تلك التوقعات المتشائمة.
ولا يحتاج المرء للتساؤل عن هوية الفاعل إذا كان المريب يقول خذوني في كل السوابق الماضية؛ ولا التخمين بشأن ماهية النوايا المبيتة من وراء هذه الفعلة المشينة، إذا كانت البعرة تدل على البعير، وكانت النوايا غير مبيتة إلى هذا الحد المكشوف لكل ذي عين ترى وأذن تسمع. فمثل هذا التساؤل لا يستحق إعمال الذهن طويلاً، حتى إن تم دس أنف “داعش” بسذاجة، وجرى استحضار كل الشياطين الزرق، ناهيك عن تشكيل لجنة يحقق فيها الجاني مع نفسه، كي يصدر فيما بعد حكما ناجزا ببراءة الذئب من دم ابن يعقوب.
خلاصة القول، إن شهوة السلطة التي تستبد بالجائعين لفتات غنمها الضئيل وحد سيفها المثلوم، حتى وإن كانت فوق ركام آلاف البيوت المدمرة، وداخل أكبر سجن مقام في الهواء الطلق، هي القوة الدافعة وراء كل هذا التفلت من المصالحة، والمسبب الأول لكل هذه الأفعال الرامية إلى تفويت أي فرصة تسنح لإنهاء الانقسام الذي يبيض ذهباً في حضن الاحتلال وحده. الأمر الذي لا يدعو إلى إبداء التشاؤم فقط، وإظهار التطير إزاء كل كلام عن المصالحة فحسب، وإنما أيضاً اليأس المطبق من خروج التائهين من متاهتهم الطويلة، إلى حين قد لا يحين في المدى المنظور.

شاهد أيضاً

نحن أكثر بلد عربي استقبل موجات لجوء* الإعلامية رانيا تادرس

عروبة الإخباري – أكبر خطيئة في حق الأردنيين اتهامنا بالعنصرية لانه اتهام مبني على الزور …

اترك تعليقاً