في إحدى الحلقات النقاشية التي كثيرا ما يعقد مثلها في عمان، ذكر مفكر أردني ومسؤول سابق، في معرض حديثه عن الأوضاع الحالية في الدولة، “أن شعبنا غير منظم.” ثم استمر في نقده العام لسياسات الحكومة بالطريقة التي اعتدناها من قبل حيث يبقى الحديث حول هذا الموضوع، كما في غيره من قضايا سياسية واجتماعية خطيرة، حديثا شعاراتيا عاما، وخاليا من منطلق ثابت متفق عليه يبدأ المتحدث منه.
ثم لاحظت، أثناء المداخلات التي لحقت، زمانيا، بحديث ذلك الصديق، أن أحدا لم يقف ولو للحظة قصيرة أمام المقولة التي ذكرها وهي أن “شعبنا غير منظم.” فيسأله، مثلا، عن الشكل الذي يتجلى فيه غياب التنظيم، على الأرض؛ كيف يكون؟ وما هو شكل التصحيح الذي نطمح لتحقيقه؛ ولماذا لا نفعل ذلك فورا؛ ومن هي الجهة المسؤولة التي يجب أن تخاطب، فيها. فربما لو تناول المتحدث الصديق هذا الأمر تفصيلا ، لساعد، بشكل ما، على تحديد المسؤولية سواء كانت مسؤولية الجهة صاحبة الشأن، أو مسؤولية المواطنين كلهم إزاءها.
كان واضحا، من تجاوز الأسئلة المهمة التي كان يجب أن تطرح، من قبل المشاركين في الحلقة، أن أغلب مواطنينا، إذا جاز لنا التعميم، هنا، يأخذون موضوع غياب التنظيم، كأمر مفروغ منه لا يختلف، إلا من حيث النوع، مع مشاكل كثيرة أخرى تثقل علينا وعلى بيئتنا الطبيعية والسياسية والاجتماعية، مثل ازدحام السيارات في شوارعنا، أو مسألة التجاوز على قوانين الدولة، ودورها، في محاولة الكثيرين، أخذ القانون بأيديهم، أثناء دفاعهم عن مصالحهم الخاصة، أو في خدمة تلك المصالح وبالطريقة التي يجدونها متاحة أمامهم، بغض النظر عما إذا كان ذلك يمثل اعتداء على مصالح الآخرين؛ أو على مصالهم هم في المدى البعيد.
لنعد للسؤال الأول المطروح. كيف كان غياب التنظيم عندنا؟ فنحن لدينا مجلس نواب منتخب، وحكومة لا تعمل ما لم تتمتع بثقة هذا المجلس الذي يراقب أعمالها، ويكون مسؤولا عن التشريع…إلخ من تقاسم الوظائف بين هذه المؤسسات كما جرت عليه عادة الدول الديمقراطية المتقدمة علينا. ومع كل ذلك ، فإن حكومتنا تبقى غير برلمانية. أي أن البرلمان لا يختار رئيسها، ولا يفرض عليها برامجها في العمل الحكومي.
المشاورات التي جرت مع البرلمان لاختيار رئيس الحكومة الدكتور عبد الله النسور، لم تكن أكثر من محاولة أولى عل البرلمان يرتفع في تنظيمه وبرامجه، وثقة الناس بها، ليكون، في المستقبل، العامل الأول في اختيار الرئيس. أي أن الأمر لم يكن أكثر من تمرين في هذا الاتجاه.
ليست لدينا أحزاب سياسية بالمعنى الذي تقوم عليه الديمقراطيات المتقدمة. أي ليست لدينا أحزاب ذات كتل تمثل الأغلبية في البرلمان بحيث تستطيع أن تفرض رئيسها بنفسها. صحيح أن رئيس الدولة في الديمقراطيات الغربية يختار، حسب الدستور في كل هذه الدول، رئيس الوزراء لكنه، عمليا، يضطر، لغايات إدارة شؤون الدولة بنجاح، لتسمية رئيس حزب الأغلبية في البرلمان أو الائتلاف الحزبي الأكبر فيه رئيسا للحكومة. وتكون لهذا الحزب برامجه السياسية التي انتخبه الشعب على أساسها، لا تنافسه في ذلك سوى أحزاب الأقلية ذات البرامج البديلة.
ما لدينا من الأحزاب في البرلمان لا يعدو أن يكون عددا من الأفراد ينضوون، مع آخرين، غالبا ما يكونون من المستقلين، في كتل صغيرة كلها. وفي الحقيقة فإنه لا وجود يشعر به المرء لأحزابنا في الحياة العامة لشعبنا. ولذلك لا يحكم شعبنا نفسه بنفسه من خلال ممثليه، كما هي الغاية القصوى من الديمقراطية، إلا من حيث التزام النظام نفسه بأهداف كبيرة نطمح أن تكون، في المستقبل، الشكل المؤسسي للحكم، الذي نتطلع جيمعا إليه. أي أن شعبنا لا يتحكم بعمل البرلمان، بمعنى أنه لا يحكم؛ وإنما يترك نفسه للنوايا الصادقة لقيادة الدولة، وثقته بها وبحكمتها.
هذا يعني من الناحية الواقعية أن شعبنا، فيما عدا مؤسسات المجتمع المدني التي لا تتجاوز 4000 مؤسسة بمجموعها، بنسبة عضوية مجتمعية لا تتعدى 5 % من مجموع المواطنين، يبقى يتعامل مع قضاياه السياسية والاقتصادية والاجتماية كأفراد هم في الغالب لا يشاركون في صناعة القرار. وهم في أحسن الأحوال يراقبون ما يجري، ولا يشاركون فيه، إلا بقدر ما تستوعب، من الآراء، وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي التي صارت في متناول كل فرد قادر على إيصال رأيه. لكن ذلك لا يكفي.
نحتاج إلى أحزاب وطنية برامجية، لا ولاءات لها عابرة للحدود، يثق بها المواطنون وينتخبونها للبرلمان، بناء على برامج عمل حكومي شاملة ومقنعة. فهي المسؤولة الأولى، إن لم تفعل، عن غياب التنظيم في مجتمعنا.
فالح الطويل/مسؤولية من؟
22
المقالة السابقة