أنقذت تونس هذا الأسبوع ما أطلقته قبل أربع سنوات وسُمّي حينذاك بثورة الياسمين وولادة الربيع العربي، وذلك بإبلاغها العالم أجمع رفضها فرض الدين على الدولة، وإصرارها على هوية المدنية والحداثة. ففوز حزب «نداء تونس» العلماني بفارق 16 مقعداً من مقاعد البرلمان بينه وبين حزب «النهضة» الديني يبعث رسالة إلى «الإخوان المسلمين» في تونس كتلك التي بعثها الشعب المصري إلى «الإخوان المسلمين» في مصر بعنوان: لا نريدكم أن تحكمونا. جرأة التونسيين، بنسائهم ورجالهم وتنظيماتهم المدنية، تستحق الاحتفاء معهم بفوزهم في الانتخابات لأن «التوانسة» – كما يسمّون أنفسهم – أعادوا إحياء الأمل بمسيرة التغيير في المنطقة العربية. والمصريون أيضاً يستحقون الاعتراف لهم بالقدرة على التمرّد الضروري عندما تسير الأمور في عكس ما وعدت به الثورة. فلو لم يُسقطوا الرئيس محمد مُرسي لنجح مشروع «الإخوان المسلمين» الخطير، والأرجح لما تمكنت تونس من التعافي منه مهما تمرّدت.
العيون تنصب الآن على مصير «الإخوان المسلمين» في اليمن حيث هُزِموا على أيدي الحوثيين الذين يتواجهون عسكرياً مع شبكة «القاعدة» العازمة على حرمانهم من التلذذ بانتصاراتهم المشتتة في كامل أنحاء اليمن. هناك في اليمن يصعب جداً أي احتفاء لأن هذا البلد العريق بات أبرز ساحة لحروب الاستنزاف المدمِّرة على أيدي قبائله وقياداته الرافضة التخلي عن السلطة. فبالأمس القريب استعد هذا البلد للاحتفاء بالانتقال السلمي من الدولة البسيطة إلى الدولة المركبة – أي الفيديرالية – واليوم طوى التفاؤل وأجّل الاحتفاء إلى مستقبل بعيد. العراقيون يحاولون استدراج الأمل بغدٍ أفضل إلى ديارهم لكنهم، حتى الآن، في قاعة الانتظار خلف باب اللاعبين الدوليين والإقليميين. الليبيون الليبراليون سيتجرعون جرعة أمل وإصرار وعزم بسبب ما حدث في جارتهم تونس، وليكن الله تعالى في عونهم. السوريون في تشتت وتشرذم وانقسام واستقطاب واستنزاف. الكرد باتوا الخط الأمامي في الحرب على «داعش» بعدما كان الوعد بهم مزدهراً. واللبنانيون يتعايشون مع اللااستقرار وينتصرون – كما فعلوا هذا الأسبوع – على الأجندات الدينية والمذهبية رافضين الانزلاق إلى المستنقع السوري.
أحداث طرابلس في شمال لبنان كادت تُنذِر بشؤم خطير لولا حكمة أهل السُنَّة الذين أثبتوا انهم ليسوا بيئة حاضنة لـ «داعش» أو «جبهة النصرة»، ودعموا الجيش اللبناني دعماً قاطعاً على رغم تحفظاتهم على بعض ما يصدر منه وعنه. هذا الجيش بات العمود الفقري لتماسك اللبنانيين على رغم انقساماتهم داخل كل طائفة. لذلك، ليس مسموحاً له أن يخطئ لأن أخطاءه قد تؤدي إلى تشتيت ذلك التماسك خلفه وعندذاك تعود كارثة الحرب الأهلية.
لا خطر من عودة الحرب الأهلية إلى لبنان في هذه الحقبة، مع أن لا شيء في لبنان مضمون. منطقياً وبناءً على قراءة السياسات الكبرى، يبدو أن هناك قراراً إقليمياً ودولياً يجمع على صيانة لبنان من الانزلاق إلى حروب التشرذم والاستنزاف. لذلك، يُنتشَل كل مرة من بين فكي وحش الحرب التي إما تسعى دمشق وراء تصديرها إليه أو يريد «داعش» إقحام لبنان فيها.
إنما على الصعيد المحلي، توجد حاجة ماسة للتنبه مهما كانت القرارات الدولية. ذلك أن المواطن السنّي في طرابلس يطالب الجيش بالمساواة في عزمه على ضبط ما من شأنه أن يهدد الوطن. وكما قال أحدهم: لا تكن أسداً معي وأرنباً مع غيري. فمثل هذا التمييز يغذّي اللاثقة بالجيش ويُنذر بتفجير المعادلة الهشّة بين السُنَّة والشيعة في لبنان تحديداً حول قتال «حزب الله» في سورية دعماً للنظام في دمشق، وانتقام «جبهة النصرة» و «داعش» من انخراط «حزب الله» في الحرب السورية داخل لبنان.
كان من الأفضل لو لم يعلن الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله أن «الفكر الوهابي» هو الذي أطلق إرهاب «التكفيريين» في الساعات ذاتها التي كان سُنِّة لبنان – بتشجيع من قياداتهم اللبنانية ومن حلفائهم في السعودية – يعلنون مؤازرتهم للجيش في عملياته ضد المنظمات السُنّية المتطرفة. مهما كانت الرسالة الإيرانية إلى السعودية وراء ذلك التصريح، كان أوعى وأكثر حكمة لو تجنب «حزب الله» المغامرة بأمن واستقرار لبنان الذي يُفتَرض أنه بلده أولاً قبل إيران.
واضح أن العلاقة السعودية – الإيرانية ليست في حالٍ جيدة بعدما كان حدث فيها انفراج عبر التوافق على التخلي عن رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي، وعبر زيارة نائب وزير الخارجية الإيراني الرياض. فالذي عكّر المسيرة نحو تفاهمات بدا واضحاً ومفاجئاً في اليمن، حيث أسفر الدعم الإيراني للحوثيين عن سيطرتهم على العاصمة صنعاء، ومن ثم على مختلف المحافظات اليمنية وصولاً إلى باب المندب الاستراتيجي.
السعودية تبدو في غنى عن الانخراط في الحدث اليمني في هذه المرحلة. هكذا توحي به الديبلوماسية السعودية. فهي تبدو واثقة من أن التوسع الحوثي الأفقي في البلاد لا يتمتع بمقومات الاستمرار. فها هو «القاعدة» يتعرّض للحوثيين بعدما عزل الحوثيون «الإخوان المسلمين» في اليمن وقزّموا انتصاراتهم. وها هو الرئيس السابق علي عبدالله صالح يحاول استدراج السعودية إلى دفع كلفة عودته إلى السلطة – مباشرة أو عبر ابنه – ملوحاً لها بأدوات نفوذه مع الحوثيين ووسائل تحجيمهم. الرد السعودي، حتى الآن، هو إبلاغ علي عبدالله صالح بأن «خيانته» مرفوضة لذلك أبلغت دول مجلس التعاون الخليجي – التي كانت في الأساس أطلقت عام 2011 مبادرتها من أجل اليمن وبموجبها غادر علي عبدالله صالح البلاد وحصل على حصانة – أبلغت مجلس الأمن أن انهيار المبادرة يعني بالضرورة سحب الحصانة عن علي عبدالله صالح.
فرض مجلس الأمن العقوبات على علي عبدالله صالح وعلى الزعماء الحوثيين، ليس أمراً عابراً مع أنه ليس حاسماً. فلقد كابر علي عبدالله صالح، وتحدى على نسق: أثبتوا التهم إذا تمكنتم. وهكذا حصل، ثم أثبت تلاعبه بمصير اليمن لحساباته الانتقامية، وذلك عبر مؤازرته الانقلاب الذي شنّه الحوثيون ومن خلال عزمه على إفساد الجيش اليمني بالفساد، وهكذا آل اليمن إلى ما آل إليه بالذات في عهد الرئيس الحالي الضعيف الذي لم يعرف أن ضعفه كان أداة من أدوات الحوثيين وعلي عبدالله صالح معاً.
الخطير في اليمن ليس فقط تدخل الآخرين فيه من دول إقليمية، إلى فكر تنظيمات دينية على نسق مشروع «الإخوان المسلمين»، إلى حروب بالنيابة، إلى اختبار تكنولوجيا الطائرات بلا طيار الأميركية، إلى اتخاذ «القاعدة» وأمثاله موطئ قدم له في اليمن. الخطير هو قرار ترك اليمن يتخبط بقبائله وعشائره والآتين إليه في حروب الاستنزاف. ففي اليمن، الاستنزاف سياسة.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعي تماماً ما كلفة الاستنزاف لها في اليمن. فهي تواجه حرب الاستنزاف في سورية، وتدرك أن الاحتمال قائم بأن تصبح سورية «فيتنام» لإيران، أما وقد أُضيف اليمن إلى قائمة حروب الاستنزاف، فإن طهران تخشى استنزافها في الجبهتين معاً – حتى وإن لم يكن بجنودها وبشعبها وبمدنها.
ثم إن طهران تعاني من استنزاف آخر وهو الاستنزاف المالي وذلك نتيجة سقوط أسعار النفط بصورة مؤذية لها. فكما روسيا، تعتقد إيران أن انهيار أسعار النفط «مؤامرة» أميركية – سعودية ضدهما نظراً إلى تأثير وقع انخفاض الأسعار فجأة في الاقتصاد في البلدين وفي قدرة إيران على الاستمرار بتوسيع أدوارها في سورية واليمن والعراق ولبنان.
وربما هذه تماماً هي السياسة السعودية الجديدة إزاء إيران: عدم التدخل المباشر في اليمن، مثلاً، فيما تتورط إيران وحلفاؤها في الاستنزاف. حصر التدخل في سورية في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد «داعش» مع الإصرار لدى الجانب الأميركي على تنفيذ تعهده بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد لاحقاً. فسح المجال للعمل البنّاء في العراق بما في ذلك استخدام النفوذ مع العشائر لمواجهة «داعش» عندما تختمر المفاوضات الأميركية – العراقية بهذا الاتجاه. ودعم التفاهمات الآتية إلى لبنان، والتي ستؤدي إلى التمديد لمجلس النواب لسنتين وأشهر وانتخاب رئيس للجمهورية قريباً – قبل نهاية السنة ربما – مع الاستمرار في دعم الجيش مادياً وتشجيع سُنَّة لبنان على دعمه معنوياً وسياسياً.
في خضم التخبط في المنطقة العربية وتفاقم الرؤى التشاؤمية، هناك بصيص أمل – بل أكثر أحياناً. حدث تونس ليس مجرد ضوء خافت، بل هو ضوء ساطع ومبشّر بمسيرة التغيير في المنطقة العربية. تطورات لبنان مشجعة – على رغم خطورة ما حدث الأسبوع الماضي – وهي شهادة على وعي شعبي وإصرار على عدم التدهور إلى حرب الاستنزاف. حتى الآن ربما هناك بصيص أمل بتفاهمات عشائرية ومذهبية وإقليمية ودولية أساسها التوافق على القضاء على مشاريع «داعش» التدميرية لمبدأ الدولة ومفهومها. والكل يعي الخطر. مصر تتخذ إجراءات ضرورية تحميها من التوريط ومن خطط إرهابية ضدها – ومصر مستمرة في مسيرة التعافي واتخاذ موقعها القيادي في المنطقة، لا سيما إذا أرفق الرئيس السيسي إجراءاته الأمنية بمواقف حريصة على الحريات وحقوق الإنسان الأساسية.
الأمل بألا يتدهور اليمن وليبيا وسورية إلى مآسٍ أكبر وأعمق وأطول، لكن المؤشرات غير مشجّعة بتحوّلات قريبة. ما يبدو أكثر ترجيحاً هو الإطالة في سورية واليمن. ليبيا ستبقى في العناية الفائقة تتدحرج على صدى الانهيار، إنما هناك بعض الأمل باهتمام دولي جديد بها وربما بنسمة ياسمين تونس لتحيي تطلعاتها.