عروبة الإخباري –
الصوت المختنق بدموع الفرح كان السبب في تجمهر المراجعين الذين غصت بهم ساحة المحكمة الشرعية بعمان، ليشاهدوا عن قرب سيدة تحتضن فتيات، بدا للوهلة الأولى أنهن بناتها، وتقبلهن بحميمية حارقة وتمسح بكمها دموعهن وتقول: (خلعته.. خلعته، اليوم فقط انتصرت على السرطان، لا خوف بعد اليوم….).
لم تكن (سائدة مرتاض، 47 عاما)، أمينة المكتبة في واحدة من المدارس الثانوية، تتوقع أن يباغتها سرطان الثدي في العام 2008 على حين غفلة.
في لقائي الأول مع سائدة أخبرتني كيف كان وَقْع خبر تشخيص إصابتها بسرطان الثدي، لا سيما أن الأطباء أبلغوها أن مرضها وصل لمراحل متقدمة بسبب الكشف المتأخر عنه مما يقلل فرص الشفاء.
تقول سائدة: (لشعوري بالذنب بسبب عدم إجراء فحوصات الكشف المبكر، وخوفا على بناتي وزوجي وعملي، فكرت جديا بإخفاء الخبر، لكن مرضا كسرطان الثدي ورحلة العلاج الطويلة وما يترتب عليها من انقطاع عن العمل وتغير في المظهر أجبراني على إخبار زوجي وبناتي بإصابتي).
قبل الإصابة كانت سائدة، تعيش حياة طبيعية وادعة مع زوجها وبناتها الثلاث، تبتسم بمرارة وهي تستعيد ذكرياتها وتقول: (تزوجته عن قصة حب دامت لأربع سنوات).
وتتابع: (اتخذت قراري بالعلاج، وكنت أرفض مشاعر الشفقة من بناتي وصديقاتي وحتى من فريق العلاج، أمنيتي الوحيدة كانت أن لا أشعر أنني أصبحت كائنا حياته مرهونة بتعاطف الآخرين، وأصعب اللحظات هي تلك التي اضطر فيها للتبرير وتأكيد أنني لم أرتكب في حياتي أي خطأ لأصاب بسرطان الثدي، سوى أنني لم أواظب على إجراء الفحص الذاتي أو السريري للكشف عن المرض).
وعند سؤالي لها عن ردة فعل زوجها تجاه مرضها أجابت سائدة:
(تسعة شهور بعد الإصابة كانت كافية لأبصر الصورة البشعة، صورة أتمنى لو أستطيع محوها من ذاكرتي، أصبح زوجي ينام في غرفة غير غرفتي، ولا يأكل من طعامي، صار نزقا ويفتعل المشاكل في كل وقت ولأتفه الأسباب، كان يتحاشى النظر في عيني، ويعود للبيت في وقت متأخر، تعايشت مع ذلك، وتنازلت عن كثير من حقوقي الزوجية المكفولة شرعا وقانونا لتسير الحياة طبيعية، لكنني للأسف فشلت، فشلت لأسباب خارجة عن إرادتي).
ملامح الاستغراب التي بدت على وجهي دفعتها للدفاع عن نفسها، فروت لي كيف كانت تقوم على خدمة زوجها وتطبيبه ومواساته عندما تشتد عليه الآلام المرافقة للدسك الذي أصابه فجأة، وأنها لم تشعره يوما بالتبرم أو الضيق، وإنما كانت زوجة وممرضة وأماً تتألم لألمه وتفرح لتعافيه.
وتابعت: (سألته مرة، وبعد تردد، كي لا أجرح شعوره: هل تعلم أن سرطان الثدي يمكن أن يصيب الرجال؟، فأجابني باستهزاء: هل تعلمين أن الشرع حلل للرجل أن يتزوج أربعة؟).
(لم أستسلم للإحباط، حاولت بشتى الطرق أن لا أهدم بيتي، ومعركتي الكبرى كانت مع الآثار التي تركها السرطان على جسدي، أثناء مرحلة العلاج بالأشعة حرصت على معرفة إمكانية منع شعري من التساقط، وبعد استئصال الثدي أجريت عملية ترميم تجميلية أعادت لي الثقة بجسدي، ورغم الأسى لم تفارق الابتسامة وجهي، تواصلت مع كثير من النساء اللواتي تعافين من سرطان الثدي واستفدت من خبراتهن في مرحلة ما بعد التعافي، لم أتردد في استشارة الطبيب المختص بالدعم النفسي).
(كانت ابنتي الكبرى تستشعر معاملة أبيها الجاحدة لي، وكان ينفق وقتا طويلا في إقناعها أنه لا يفكر سوى بفواتير العلاج التي ستجعل حياتنا جحيما لا يطاق، مع أنني لم أكلفه فلسا واحدا لحصولي على إعفاء علاجي، حتى المصاريف الجانبية من تنقلات واستشارات نفسية، كان راتبي الخاص الذي لم أبخل يوما به للإنفاق على أسرتنا يتكفل بها، سمعته مرة يقول لابنتي وقد اختلى بها: “أنت الآن في سن الزواج ولا أحد يتقدم لخطبة فتاة أمها مصابة بسرطان الثدي؟”، وعندما تذكره بأن أمها قد تعافت، يصيح بوجهها: “ومن يضمن أن لا يعود السرطان مرة أخرى”. كلامه حفر عميقا في وجداني، أدركت حينها أن شيئا بيني وبينه قد انكسر وأن الرابط الأسري بيننا كانت خيوطه أوهى مما ظننت).
في لحظة يأس أخبرته أن لا مانع لدي من أن يتزوج بأخرى، وأنني راضية عن ذلك من أجل أن تعيش بناتي في ظل أبيهن، وأفلحت محاولاته أخيرا في الارتباط بابنة عمه، لتبدأ بعد ذلك رحلة عذابات جديدة، أجبرني أنا وبناتي أن نخلي البيت الذي ساهمت أنا بجزء كبير من ثمنه ليسكن فيه مع زوجته الجديدة، سنتان كاملتان لم نر وجهه، تركنا في وقت عصيب وتنصل من التزاماته تجاهنا.
كان لابد من انتصر لحياتي، رفعت ضده قضية خلع بسبب الغيبة وكسبتها، وبدأت حياة جديدة مليئة بالإيمان والإصرار، وكنت على يقين أن سرطان الثدي، وبسبب الكشف المتأخر عنه، لم يُفلح سوى باقتطاع جزء من جسدي، لكن زوجي كان هو السرطان الذي سلبني روحي فكان علي أن أتخلص منه.
ربيع الصرايرة