أواخر عام 2011 كان طرفا الصراع في سورية يعتقدان بأن ثمة أملاً بنهاية قريبة وممكنة للأزمة. فلا مصلحة للنظام في أن تطول، والمعارضة بمختلف أطيافها لا تريد تخريب البلد أو مزيداً من الضحايا. وإذا بمسؤول كبير من صلب النظام يفاجئ مجالسين يثق بهم بقوله: للأسف، لا حلّ قريباً، وأخشى ألا يكون هناك حلٌ أبداً، فإيران مصممة على القتال حتى آخر عَلَوي في سورية!
واليوم، بعد مضي نحو أربعة أعوام، ومع بلوغ ضحايا الطائفة العلوية مئة وسبعة آلاف بينهم أكثر من ستين ألف عسكري، يمرّ أبناؤها بمشاعر مريرة إزاء تطوّرات تتناقض كثيراً مع ما بنته من آمال في حسم عسكري تعهّده النظام، وفي انفراج سياسي وعد بإنجازه بعد الانتخابات الرئاسية. فما صُوِّر بأنه «الحسم» لم ينهِ الأزمة، وما قيل أنه انفراج تمخّض عن حكومة هزيلة ينصبّ عليها حالياً كل انتقادات العلويين، فهم كسائر الموجودين في سورية يخشون انتقاد النظام.
في الآونة الأخيرة توالت خيبات الأمل والمآسي، وشاهد العلويّون أبشع المذابح على أيدي تنظيم «داعش» في محافظة الرقة، من سقوط الثكنة الكبيرة التي كانت مقر الفرقة 17 المحاصر منذ منتصف عام 2013، فمقر اللواء 93، ثم مطار الطبقة، بالإضافة إلى فظائع رافقت السيطرة على حقل الشاعر النفطي في حمص الذي استطاعت قوات النظام استعادته لاحقاً. مئات القتلى في غضون أيام ليسوا جميعاً من العلويين، وأشرطة للإعدامات الميدانية تذكّر بأشرطة مماثلة لجرائم «شبّيحة» النظام، ورواية عن هروب كبار الضباط من مطار الطبقة وانتقائهم للجنود الهاربين معهم لقاء بدل مالي وتركهم الآخرين. كلّها وقائع قلبت مزاج العلويين وعكسها موقع «وينن» الذي نقل في أحد الأيام هذه العبارة الموجهة إلى بشار الأسد «الكرسي لك والتوابيت لأولادنا». وفي المرحلة نفسها راجت تلك النكتة السوداء عن مسؤول سوري يزور عائلة شهيد من الجيش ويقول لهم: ابنكم بطل رفع رأس الوطن وافتدى سيد الوطن بدمه، مبروكة علينا شهادته. ويردّ أبو الشهيد: شكراً إلكم سيدي، وعقبال ابنكم.
بعد ذلك مرحلة إنشاء التحالف الدولي ضد الإرهاب ومحاولة النظام إيجاد دور له بأي شكل وأي صيغة. كانت تلك فرصة اعتبرها موالون النظام محوريةً لعله يرمّم «شرعيته» الداخلية ويستعيد مكانته الإقليمية. وعندما بدأت عمليات القصف الجوي تأكد لهم أن مراهنات الأسد على ورقة الإرهاب لم تنجح، على رغم أن مانشيتات صحف دمشق عنونت بالبنط العريض: «واشنطن وحلفاؤها في خندق واحد مع الجيش السوري لمكافحة الإرهاب»… وبموازاة القصف الدولي وهجوم تنظيم «داعش» لاحتلال عين العرب/ كوباني واقتلاع الأكراد منها، خلال الأسبوع الماضي، تسبّب تفجيران متزامنان بالقرب من مدرسة في حي عكرمة الذي تقطنه غالبية علوية في حمص بمجزرة مروّعة قضى فيها 47 طفلاً (بينهم فلسطينيون) من أصل 54 ضحية، وتحوّل تشييعهم إلى تظاهرة احتجاج عبّر فيها المواطنون المألومون عن غضب عارم وطالبوا بتغيير المحافظ وقادة الأمن. لم يبثّ التلفزيون الرسمي ما سجّلته كاميرته لكن «اليوتيوب» تكفّل بنقل تصريحات الاستياء من الإهمال والتهاون في الحماية وعدم المشاركة في الحداد. وتضمنت مواقع التواصل الاجتماعي تساؤلات وشكوكاً فضلاً عن اتهامات مباشرة مفادها أن أجهزة النظام هي التي افتعلت التفجيرين، وبذلك ينضم حي عكرمة إلى عشرات الأحياء في دمشق ومدن أخرى التي لا تبرّئ النظام من جرائم في المناطق الموالية. لكن أين مصلحة النظام إذا صحّ أنه الفاعل في حي عكرمة؟ يبدو أن الحدس الشعبي أكثر نفاذاً وسرعةً من كل التحقيقات، فليس حدثاً عادياً أن يتهم موالون «نظامهم»، خصوصاً أنهم يعرفونه جيداً. أما المحللون فيقولون أنه سعى من جهة إلى مخاطبة «التحالف» الدولي بأن الإرهاب يضرب العلويين في منطقة قريبة من العمليات العسكرية وهم أقلية فيها، ومن جهة أخرى أراد أن يشد عصب الطائفة ويذكّرها بأنها مستهدفة أكثر مما كانت ولا سبيل أمامها غير الولاء له.
من الواضح أن النظام يشعر بأنه يسجّل خسائر في بيئته الحاضنة، وليس مؤكداً أنه اختار الأسلوب الأفضل لرصّ الصفوف وراءه، ذاك أن تظاهرة حي عكرمة وردود الفعل الرسمية عليها وإصرار المنظّمين على تسييرها على رغم محاولات مستميتة لإثنائهم عنها ذكّرت الكثيرين بتلك التظاهرة الصغيرة التي شهدها حي الحريقة التجاري في دمشق (منتصف شباط/ فبراير 2011) واعتبرت الأولى في الانتفاضة الشعبية. لكن هل يعني ذلك أن «والموالين» على وشك الثورة على النظام؟ لا طبعاً. هناك نقمة وسخط واحتقان، فهم لا ينسون مئات العسكريين والمدنيين المعتقلين في سجونه، ولا رهائن قرى الساحل المحتجزين لدى فصائل معارضة منذ آب (أغسطس) 2013 أو رهائن عدرا العمالية المحتجزين أيضاً منذ كانون الأول (ديسمبر) 2013 ويرفض النظام مقايضتهم بمعتقلين للمعارضة. وهناك كثير من المآخذ والانتقادات والشتائم معطوفة على شعور بأنهم «وقود لحرب باتوا يشاهدون نتائجها» كما كتب أحدهم على صفحته في الفايسبوك، وأن النظام يستخدمهم للمحاربة من أجل بقائه، حتى أن «الشبيحة» صاروا يشبّحون عليهم هم أيضاً. وهناك أيضاً تخبط وخوف من المجهول وتساؤلات صريحة هل لا يزال النظام قادراً على حمايتهم، بالإضافة إلى استخلاصات من نوع «من يتمسّك بالأسد يريد فقط إطالة المأساة وتعميق الخسائر» و «الأسد ليس حلاً لأي شيء، هو مجرد كارثة»، فضلاً عن اقتراح شائع ومتكرر لـ «إقامة حكم ذاتي في مناطق العلويين» أو «أسرع طريقة لإنهاء الحرب: التخلص من بشار الأسد، وحكم ذاتي للعلويين» مع ملاحظة بأن هذا الاقتراح «لا يعني تقسيم سورية، إنه الحل الوحيد للمحافظة على الكيان السوري»…
في السابق لم يكن العلويون جميعاً على المسافة نفسها من النظام ولاءً أو تأييداً أو إعجاباً، وككل الطوائف الأخرى (السنّة والمسيحيون) كانت لديهم غالبية صامتة وخائفة مثل الآخرين ومتعايشة معهم، وكالآخَرين كان لديهم حشد من الموالين المستفيدين من النظام و»نخبة» قليلة من المعارضين المطالبين بإصلاحه. ومنذ ثمانينات القرن الماضي راح العلويّون المستفيدون ينفردون بـ «امتيازات» السلطة ويحتكرون قوّتها فغدوا عماد النظام.
مع التدرّج الانحداري، ومن الباب المذهبي وتركّز مفاصل الدولة في أيدي الأنسباء أمكن للإيرانيين الارتقاء من «التحالف» مع حافظ الأسد إلى اختراق نظام بشار الأسد للتحكّم بحلقته الضيّقة وقراره العسكري والسياسي، فضلاً عن التصفية الجسدية لمَن لا يحظى بثقتهم.
قبل اشتعال الانتفاضة الشعبية في 2011 كان علويّو النظام في أعلى درجات الامتلاء بالذات والثقة بأنهم مطبقون على مفاصل الدولة إطباقهم على رقاب السوريين وأنفاسهم. لذلك بدت الانتفاضة تحدّياً لسلطتهم لا بد من وأده في المهد ولا يمكن أن يُعامل إلا بالقمع والعنف. أما النظام فعجز في تلك اللحظة (أحداث درعا) عن التصرّف كـ «دولة»، أي لجميع السوريين، واعتبر أن «دولة الطائفة – العائلة» هي المستهدفة بل المهدّدة بالانهيار إذا كان عليها أن ترضخ للضغوط الشعبية وتقدّم «تنازلات». وللتمويه على الخلفية المذهبية للعنف اجتمع الموروث البعثي والمكتَسَب الإيراني لتبريره بنظرية «المؤامرة الكونية» على النظام وعلى نهج «المقاومة والممانعة» الذي يتّبعه.
وفيما مضى الأسد في رحلته الدموية من أجل البقاء، وقعت الغالبية العلوية الصامتة رهينة أخطاء علويّي النظام والعداوات التي زرعوها، فلا النظام ترك فسحة لـ «مصالحة وطنية» يحتاجها اليوم لإعادة تأهيل نفسه ولا أتيح للطائفة أن تبقي جسوراً مع الفئات الأخرى. أما الإيرانيون فلم تسعفهم حنكتهم ولا براغماتيتهم ولا خططهم للبحث عن حلول سياسية، قادهم العمى الأيديولوجي للجنوح إلى صراع سنّي – شيعي في بلد تجاهلوا أن ثلاثة أرباع سكانه من السنّة كما اكتشفوا أن شيعة علويّيه مرتبطة فقط بتمكينهم من الاستحواذ على السلطة.
* كاتب وصحافي لبناني