بلد عربي آخر يدخل المجهول الذي لم يعد يعني سوى الفوضى والحرب الاهلية. بلد آخر يخرج من المنظومة العربية ليقع في دائرة النفوذ الايراني. لم تعد العبارة العربية «لا بد من صنعاء وان طال السفر» صالحة بعد اليوم. تغيرت احوال العاصمة اليمنية بعد «الغزو الحوثي» الى الأبد، وربما صار تجنبها لازماً، مثلما أوصت بعض الدول مواطنيها. اليمنيون انفسهم يفكرون بمغادرتها، ومن قدر لا بد فعل. فالارجح ان مدينة المخطوطات والوراقين، ومن خلفها البلد كله، لن تعرف الاستقرار مجددا اذا ما استمر اخضاعها لقوة السلاح.
لم يتوقف «الحوثيون» عند حدود محاصرة صنعاء بالمعسكرات والمسلحين، بل اقتحموها وهاجموا مؤسسات حكومية وعسكرية واحتلوها موقعين مئات الضحايا، وفرضوا بالقوة اتفاقا سياسيا يمنحهم النفوذ اللازم لتعيين رئيس الوزراء واختيار تشكيلته، اي يجعلهم الحاكمين من خلف الستار، مع الابقاء على سلطة رمزية يمثلها الرئيس هادي بعد اغراقه بـ«المستشارين». لكنهم رفضوا في الوقت نفسه الزام انفسهم باتفاق امني يقضي بسحب مسلحيهم واخلاء معسكراتهم.
انهيار الجيش اليمني امام «الحوثيين» يذكر بتداعي دفاعات الجيش العراقي امام «داعش» اخيرا، ويطرح الكثير من الاسئلة عن الاسباب والتبريرات و«المايسترو»، خصوصا ان الاتفاق كشف التحالف القائم بين «الحوثيين» و «الحراك الجنوبي» الداعي الى الانفصال، وكلاهما ترعاه طهران.
اما قصر الاتفاق على الجانب السياسي فيعني ان «الحوثيين» مستعدون للعودة الى القتال اذا لم ينل التطبيق رضاهم، اي انهم يبقون السلطة رهينة بأيدي مقاتليهم من «انصار الله»، الى حين استباب الامور لمصلحتهم، وإلا فالعودة الى العنف واردة في كل لحظة.
يذكرنا هذا بالاسلوب الذي اتبعه رديف «الحوثيين» في لبنان، «حزب الله» الذي يحكم البلد ايضا من وراء حكومة يقبض على انفاسها، لان انسحابه منها يعني بالنسبة الى فريقه «اخلالا بالتمثيل الميثاقي»، ويسحب عنها غطاء «الشرعية» الذي يرسم هو حدوده ويحدد معاييره، مظهراً في الوقت نفسه استعداده لاستخدام «عضلاته» اذا رأى ان الاطراف الآخرين لا يلتزمون الخط الذي حدده لهم، مثلما فعل في أيار 2008.
توقيع الاتفاق الاخير جرى برعاية الامم المتحدة التي لا بد استهلمت رأي الدول المعنية بمبادرة المصالحة الوطنية قبل ان تواصل وساطتها بين الاطراف. ولعل النصيحة جاءت بإنقاذ صنعاء من الخراب بعدما انهارت دفاعاتها. فهذه الدول مثل «ام الولد»، وليس من مصلحتها تسريع الانهيار الكبير.
وكان انقلاب «الحوثيين» على المبادرة التي وقعوها كشف نيتهم في استكمال الإفشال المتدرج للتسوية السياسية الدائمة، وفضح اصرار راعيهم الاقليمي على ربط الوضع اليمني بحساباته. لكن اليمن لا يستطيع العيش في استقرار اذا تحول منصة لخدمة اهداف اقليمية غير عربية، ولا يمكنه الاستمرار كدولة موحدة اذا عادى محيطه الأقرب، ولن يتمكن من اعادة اللحمة الى شعبه وتجنب حرب اهلية محتملة اذا كان سلامه مفروضاً بالاستقواء الخارجي ومستندا الى غلبة السلاح.
المهم ان ينجو اليمن من النموذج العراقي، فلا يقع في الفئوية المدمرة، بل ان الجهود يجب ان تنصب على اعادته الى الحضن العربي الطبيعي الذي طالما سانده في ازماته وخفف من مآسيه، لان انسجامه مع محيطه شرط اساسي لتجنيبه الانقسام والتفتت، وبوصلة تقيه الضياع في زمن اختلاط الاتجاهات، وهذا لن يحصل إلا عبر تقليص متدرج لنفوذ «الحوثيين» واعادتهم الى القمقم.