عروبة الإخباري – السؤال الباعث على الصدمة والاستهجان أعلاه، ليس إلا واحداً من مخرجات حالة الالتباس وعدم اليقين التي ما تزال تعصف بقطاع غزة، بعد مرور نحو شهر على نهاية ذلك العدوان الآثم، وتضاؤل الخيارات الضئيلة أصلا. وهو أيضا سؤال استهلالي أولي لعصف فكري، يقتضيه تدافع جملة طويلة من المتغيرات المترتبة على اشتداد حالة الاستعصاء التي باتت تسد الدروب السياسية أمام القضية الفلسطينية، وتهبط بها، وبالقطاع المحاصر، إلى قعر درك جديد.
والحق أن هذا السؤال المتعارض مع المسلمات القديمة، والخارج عن إطار الفكرة النمطية المستقرة في الوعي العام، قد تم طرحه بصوت منخفض، وعلى نحو استفهامي غاصّ بالقلق، قبل أن تضع الحرب الأخيرة أحمالها الثقيلة المضاعفة على الشعب الفلسطيني عموماً، وعلى قطاع غزة خصوصاً، وذلك على ضوء ما راح يتكشف تباعاً من مشاهد قتل ودمار وترويع، فاقت أسوأ الكوابيس، وما أخذ يتبدد تدريجياً من نتائج سياسية مخيبة للآمال، رغم ملحمة الصمود وكفاءة القتال في الميدان.
ذلك أنها المرة الثالثة في غضون ست سنوات، التي يتعرض فيها قطاع غزة لحرب عدوانية باهظة الكلفة، من دون أن يسفر التصدي الباسل لآلة القتل الإسرائيلية الفتاكة عن تحقيق تقدم في مكانة القضية الفلسطينية، أو أن تنتج كل تلك التضحيات العظيمة مكاسب حياتية ضئيلة، في صورة تحسّن للخدمات، أو رفع جزئي للحصار، أو غير ذلك من الإنجازات المأمولة من وراء خوض المواجهات برجولة حقيقية، لاسيما في الحرب الأخيرة التي أدخلت كامل العمق السكاني الإسرائيلي، ولأول مرة، في دائرة استهداف نار الصواريخ الفلسطينية.
ورغم الأهمية الفائقة لكل تلك الإنجازات المعنوية والرمزية والأخلاقية، المتحققة بفضل أداء عسكري بلغت فيه المقاومة حدود الإعجاز، فقد كانت النتيجة غير النهائية بعد، لكل ذلك الأداء الباهر، مثيرة للأسئلة المؤلمة، وباعثة على الشك والارتياب، بجدوى تحويل قطاع غزة المحاصر إلى منصة لإطلاق الصواريخ، وبث مجرد الهلع لدى الإسرائيليين، إذا كانت العوائد المتحققة على الأرض “هدوءا مقابل هدوء”، فيما الحقائق المادية الملموسة صارخة بكل هذه الأعداد المفجعة من الشهداء والجرحى، وكل هذا الدمار الرهيب.
وإذا كانت الأمور تقاس بالنتائج، وهي بالفعل كذلك، فإن الحديث عن نصر غيّر وجه الشرق الأوسط، من دون أن يلمس أحد داخل قطاع غزة ثمرة من ثمراته، يصبح حديثاً لتعليل النفس بالأمنيات، ويغدو مجرد حقائق من عالم افتراضي، أو قل هروبا إلى الأمام وتنصلاً من المسؤوليات، إن لم نقل محاولة لترهيب كل من لديه تساؤل عن جدوى مثل هذه المجابهات؛ إما بوصفه بالانهزامي، وإما بالقدح في وطنيته، إذا خرج عن حس القطيع، وفكر من خارج الصندوق.
بكلام آخر، فإن المقاومة التي فوتت على إسرائيل جل أهدافها، لم تحقق، مع الأسف، في نهاية المطاف أياً من الأهداف التي نقشتها على الراية المرفوعة، وفي المقدمة منها إنهاء الحصار السياسي والمالي وتعويم الإسلام السياسي. بل إن التداعيات الأولية لهذه الحرب بدت وكأنها طلقات مرتدة؛ إذ برغم الشعبية اللحظية الجارفة، فقد هبط وزن “حماس” السياسي أكثر فأكثر، وبات الحصار أشد من ذي قبل، واستعادت مصر الجديدة، يا للمفارقة، وزنها الإقليمي السابق، فيما أجمع العالم على أن السلطة الفلسطينية هي العنوان الأوحد، إذا ما أريد للحصار أن يُرفع، وللإعمار أن يبدأ.
خلاصة القول، وعلى هدي هذه الحقائق المؤلمة، فإن السؤال عما إذا كانت الحرب الأخيرة على غزة هي آخر الحروب في المدى المنظور، يصبح سؤالاً يستحق النقاش الجاد، ويستلزم إجراء المراجعات المعمقة، ليس من منطلق التسليم بواقع الاحتلال والحصار، وإنما من زاوية ما يسمى بالكلفة والاستطاعة في أدبيات الفقه الشرعي. وهو ما يستدعي القيام بمقاربات جديدة لمقاومة إسرائيل المدججة بالفاشية والإجرام، بوسائل أخرى أقل استدراجاً للموت والدمار، يتم فيها تبريد حدة المواجهات، وليس تجميدها على الإطلاق؛ أي بالابتعاد عن التهور والانجراف، وذلك إلى أن يتغير واقع هذه المنطقة الغارقة في فوضى مديدة، وتتبدل اهتمامات العالم الذاهب إلى حرب جديدة ضد “داعش”، ويسفر هذا المخاض العنيف عن واقع جيوسياسي جديد.
عيسى الشعيبي/الحرب على غزة.. هل تكون الأخيرة؟
27
المقالة السابقة