بداية، لا بد من التأكيد على أن” أزمة الفاتورة النفطية لدينا لا تعود إلى ارتفاع أسعار النفط فقط، فهذا أمر يشمل العالم بأسره، و إنما جوهر الأزمة يكمن في إنخفاض دخل الفرد و بطء النمو الإقتصادي على مدى سنين”.وهذا يستدعي التفكير والعمل الدائم على تنمية الإقتصاد بمعدلات أكبر من خلال التصنيع و تنمية المحافظات، و إعطاء الأولوية لتوفير الأموال لهذه الغاية دائما، قبل الإستغراق في مشاريع ضخمة تستنزف الأموال، ولا تغير من جوهر الحالة الإقتصادية الإجتماعية إلا أقل القليل.
و من جهة ثانية، فإن معيار صواب القرار الذي تتخذه الدولة ليس المبدأ العام من حيث انه جيد أو غير جيد، بل معيار القرار أن يكون الأفضل بين البدائل الأخرى: اقتصاديا وتكنولوجيا و اجتماعيا وأمنيا في المرحلة التي تمر بها البلاد.
ومن جهة ثالثة لعل من أسوأ ما يصيب الوطن من أضرار، هو تحويل الوطني إلى شخصي، والسياسي إلى ديني، والقانوني إلى عائلي. وهذا ما ينطبق على المشروع النووي. من قال أن المحطة النووية المراد إنشاؤها تخص شخصا بعينه ؟ ومن قال أن هذا المشروع هو للحكومة ووزرائها وليس للدولة الأردنية والشعب الأردني؟ ومن قال أن النقد الذي يوجه للمشروع هو نقد لشخص الوزير أو رئيس الهيئة أو غيرهم؟ كلا.. بل لأن كل المشاريع هي مشاريع للدولة والوطن، فإنه ينبغي التأكد من نجاعتها وسلامتها وجدواها وحسن تصميمها، لأن الضرر يعود على الوطن بأكمله عند حدوث أخطاء. و الخلاف في المشرع النووي هو خلاف من أجل المصلحة الوطنية. ذلك أن المحطة النووية تختلف في خطورتها و متطلباتها عن محطة ديزل أو مصنع شيكولاته، حيث أن الخطأ في النووي جسيم وكإرثي. أن الإشكالية في المشروع ليس بعموميات الهدف وهو توفير طاقة كهربائية، و هو ما يجري تسويقه الجمهور بشكل وردي تبسيطي لا يقارن النووي بالبدائل الأخرى، وإنما الإشكالية في الجدوى الفنية والإقتصادية و اللوجستية والأمنية والبيئية والتمويلية في إطار المعطيات الوطنية. وعلى النحو التالي.
أولاً: التبسيطات والتجميلات غير الحقيقية كالقول “أنه يحقق لنا الاستقلال، ويوفر لنا فاتورة الطاقة المستوردة، ويحولنا إلى دولة متقدمة، وغير ذلك. ثانياً: المغالطات الفنية كالقول” بأن المحطة ستولد (2000) ميغا واط من أصل (6000) ميغا واط عام 2023 غير دقيق، لأنه ليس من الصحيح تحميل محطة واحدة (33%) من الحمل الكهربائي لأن حدوث أي خلل في المحطة يؤدي إلى الهبوط الكلي للشبكة الكهربائية، أو يكون هناك إحتياطي توليد مماثل و هو أمر غير اقتصادي. ثالثا: الإيحاء بأن المحطة النووية ستحل مشكلة الطاقة في الأردن غير صحيح. فالكهرباء تشكل (40%) من فاتورة الطاقة فقط ويبقى (60%) على شكل نفط ومشتقاته يستهلك النقل 40% منها. وهذا يعني أن الطاقة النووية بحدها الأقصى ستكون 30% من الكهرباء أو 14% من الفاتورة النفطية فقط. وبالتالي فالمشكلة الكبرى ستبقى قائمة في أل (86%) من الفاتورة أي أن البلاد سوف تستمر باستيراد 86% من احتياجاتها إذا لم تتغير السياسات وتدخل مصادر جديدة. أين الاستقلال؟ وأين الاكتفاء؟ و أين التحرر من النفط؟ خامساً: الأسعار الوهمية، فأسعار الكهرباء لن تنخفض إلى (5) قروش أو (7) قروش. فسعر الكهرباء يحدده كلفة خليط الطاقة، وليس كلفة مصدر واحد. ففي فرنسا مثلا والتي تولد (72%) من كهربائها نوويا يزيد سعر الكيلو واط ساعة عن (17) قرشا. فلماذا تروج أرقام غير واقعية؟ سادسا: يتحدثون في لقاء الإعلاميين عن توليد الكهرباء وتحلية المياه وقبلها عن تصدير الكهرباء. إذا تم وضع المحطة في عمق الأراضي الأردنية، فمن أين ستأتي المياه للتحلية؟ عندما كان الموقع على البحر كان ذلك مفهوما. أما أن تكون المحطة بعيدة 300 كم عن مياه البحر ويتحدثون عن تحليتها فهذا ليس مفهوما. أما أن تنقل الكهرباء إلى العقبة وتحلى المياه هناك، ثم تنقل إلى وسط البلاد و شمالها ،فهذا التفاف فيه خسائر وإغفال للاقتصاديات. أيها أفضل: إنشاء محطة تحلية للمياه في العقبة، تعمل بالطاقة الشمسية ولا يعترض عليها الجوار، وباستثمار من القطاع الخاص لا يتعدى مئات الملايين مقابل المليارات للنووي، ؟ أو توليد الكهرباء في الأزرق ونقلها إلى العقبة ومن ثم إعادة المياه إلى أعلى؟
سابعاً: يقولون أن المحطة ستكون الحاضنة الحقيقية لتأهيل وتدريب الكوادر الأردنية من مهندسين وفيزيائيين. صحيح أن المحطة ستكون فرصة لتدريب الكوادر الأردنية . ثم ماذا ؟ هل نحن دولة صناعية؟ وهل لدينا صناعات نووية؟ هل سوف نصدر خبراء و فنيين نوويين ؟ إن إدارة المحطة شيء والصناعة النووية والتصنيع شيء آخر . باكستان دولة نووية و لم تتحول إلى دولة متقدمة. و السؤال أمام الدولة ،و ليس الفريق النووي ،:”أيها أجدى و أفضل أن تنفق 3 مليار دولار أو أكثر على تصنيع الاقتصاد الوطني و تنمية المحافظات ونستخدم البدائل الأخرى للطاقة دون أعباء مالية مرهقة؟ أم تنفق المليارات على النووي و يبقى الإقتصاد على حاله؟، والنقل على حاله، والمحافظات على حالها؟. ثامناً: تصدير اليورانيوم والنظائر المشعة . وهي كلها افتراضات لم تستطع هيئة الطاقة التعامل معها لأنها افتراضات خاطئة، وأعطت الرأي العام انطباعات واهمة. أن اليورانيوم الذي لدينا معظمه بنسبة تركيز منخفضة ،اقل من 100 جزء في المليون، وان تعدينه واستخراجه سيكون مكلفا، ويحتاج إلى مياه وليس لدينا مياه. وكان المفروض في عام 2012 أن تصدر الهيئة 2000 طن يورانيوم ولكنها لم تبدأ التعدين بعد. إن اليورانيوم ليس كالنفط يحول الدول “اليورانيومية” إلى دول غنية. فسعر اليورانيوم لا يتعدى اليوم (80) دولار لكل كغم واستخراج 2000 طن لن يزيد عن 160 مليون دولار و اليورانيوم المستخرج لا يستعمل مباشرة في المحطة، بل علينا شراء يورانيوم مخصب. تاسعاً: المخاطر المسكوت عنها ينبغي تبيانها. وهي إشكاليات النقل والحماية ومواجهة الكوارث النووية. وأعقدها توفير المياه ،ليس فقط للتشغيل، وإنما في حالة الكارثة النووية.” يريد المواطن أن يسمع إجابة صريحة: إذا وقعت كارثة نووية فمن أين سنأتي بكميات غير محدودة من المياه؟؟” فقط أجيبوا على هذا السؤال. عاشراً: اقتصاديات المشروع . لقد بلغت مديونية الأردن اليوم (30) مليار دولار ومن المتوقع عام 2023 أن تتجاوز 45 مليار دولار. فهل من الحكمة إضافة مديونية جديدة ضخمة هي كلفة المحطة وتوابعها والتي قد تصل إلى 15 مليار دولار دون أن يكون هناك إضطرار لذلك؟ أما مقارنة الأردن بالإمارات ففيه ظلم كبير عند النظر في الإمكانات المالية لكل منها. حادي عشر: لماذا التسرع والاستعجال في الوقت الذي لدينا بدائل محلية ؟ تركيا لم تتسرع، ومصر وتونس والمغرب والجزائر وحتى إسرائيل كلها لم تتسرع في إنشاء محطة نووية. وجميعها متأثرة بأسعار النفط .لماذا لا نضع جهودنا في تشغيل بدائل الطاقة أولاً: ونكتسب الخبرة الحقيقية على مهل؟. ونتحدث هنا عن الصخر الزيتي والطاقة الشمسية وطاقة الرياح وهذه كفيلة بأن تغطي أكثر من 60% من احتياجاتنا من الكهرباء. لماذا لا زالت العقبات والعراقيل توضع أمام الصخر الزيتي ولم توقع الاتفاقية مع الشركة الاستونية وغيرها منذ 8 سنوات ؟ لماذا تضغط الحكومة على تخفيض سعر توليد الكهرباء من الصخر الزيتي إلى 9 قروش وحاليا يجري توليده بالديزل بأكثر من 22 قرشا ؟ لماذا لا تفتح الحكومة المجال للمستثمرين لكي ينشئوا محطات طاقة شمسية دون عوائق وتأخير وتسويف ؟ وقد ضج البرلمان و عبر عن عدم الرضا عندما أكدت لجنة الطاقة في البرلمان هذه المسألة؟ لماذا لا تنفق الحكومة 3 أو 4 مليارات دولار على شبكة سكة حديد فتوفر 40% من فاتورة النقل التي تساوي بل تزيد عن فاتورة الكهرباء؟ لماذا لا تنفق الحكومة مليار دولار على تنمية المحافظات وإنشاء مشاريع إنتاجية فتضيف إلى قوة البلاد الشيء الكثير؟ بدلا من يستمر شباب المحافظات عاطلين عن العمل ليشاهدوا عن بعد المحطة النووية؟
إن الدول يمكن أن تخطئ كما يخطئ الأفراد. وهناك أكثر من 23 مشروع للطاقة النووية في العالم تم إيقافها قبل أن تكتمل بسبب أخطاء فنية وهندسية واقتصادية وبيئية. وبعض من هذه المشاريع في الولايات المتحدة الأمريكية أم التكنولوجيا والهندسة النووية. نعم الدول يمكن أن تأخذ قرارات خاطئة، ولكن دور أهل العلم والخبرة والتكنولوجيا ودور المفكرين والمثقفين والمتابعين للشأن العام أن ينبهوا الدولة إلى القرار الخاطئ لتصحيحه قبل فوات الأوان. ولا يعد هذا التنبيه انتقاصا من الوطنية أو عدم احترام للدولة أو انتقاصا من مكانة أي مسئول. فقط حب الوطن و الإنتماء إلى الدولة والشعب، هو الدافع لأن تكون القرارات الكبيرة والصغيرة صحيحة وسليمة وصائبة، ولا تؤدي إلى نتائج سلبية تعكر صفو المستقبل الذي تتطلع إليه الأجيال.