ليس من السهل ولا من الحكمة أو الوطنية التغاضي عن ما يجري في معان من تململ، وتظاهر وتحرك ومطالبات، بل وهتافات ورفع أعلام ورايات، وخروج عن القانون. والحقيقة أن معان والتي تشكل (3%) من سكان المملكة تمثل نفسها بقوة، كما وتمثل حالة العديد من المحافظات الصامتة. هل الإشكال هو أمني بحت؟ هل الحالة هي مجرد انسياق نحو التطرف؟ وشباب غاضب لا يرضى بشيء؟ ما نراه في معان هو أعراض المشكلة وظواهرها وأساليب التعبير عنها. ومن هنا فإن الانصراف نحو معالجة الأعراض سوف لن يغير في العمق. والمشكلة قائمة منذ عدة سنوات تقترب من الثلاثين وعنوانها “عدم الإهتمام بالمحافظات”.
صحيح أن الخدمات والبنية التحتية هي جيدة في جميع محافظات المملكة، واستثمرت الدولة فيها الكثير. وصحيح أن كل مواطن في معان حصل مؤخرا على دونم من الأرض. إلا انه ليس بالخدمات وحدها يحيا الإنسان، ولا بالبنية التحتية يكتفي المواطن. نسبة البطالة في معان ترتفع وتتجاوز 15%، ونسبة الفقر أيضا مرتفعة وتصل إلى ( 18% ). و محافظة معان بمساحتها التي تعادل (37%) من مسحة المملكة تقع على طريق الثروات والتجارة المتحركة بين السعودية والأردن. فماذا يتوقع من الشباب أن يفعل؟ الوظائف الحكومية ليست مغرية لأنها تعني في اغلب الأحيان الخروج من معان إلى حيث الوظيفة ،عدا عن محدودية الرواتب وغلاء المعيشة. المشاريع الصناعية في معان تكاد تكون معدومة رغم إمكانية إنشاء العديد منها.. الطاقة الشمسية في معان تصلح أن تكون صناعة كبرى إذا تم تصنيع الأنظمة الشمسية و ليس مجرد تركيبها ،وكذلك طاقة الرياح.أما الرمال الزجاجية العالية الجودة فيمكن أن تكون صناعة قائمة بذاتها من خلال عمليات التنقية وتصنيع السليكون والبلورات النقية التي تلزم في صناعات عديدة، وغير ذلك الفوسفات والأسمنت والصخور الرخامية والمعدنية والأملاح وغير ذلك الكثير.
الأزمة في معان تتطلب العمل على محاور متزامنة ستة.الأول المشاركة في إطار الديموقراطية المحلية.لقد كانت المحافظة على مدى السنوات لها دور بارز ولها مساهماتها المميزة في بناء الدولة الأردنية. فلماذا لا تدعو الحكومة إلى تشكيل مجلس تنموي من أبناء المحافظة، تساعده مجموعة من الخبراء ، يتولى تحديد المشكلات الرئيسية على اختلافها و اقتراح الحلول والإجراءات؟ وعلى ضوء ذلك تضع الحكومة البرامج والمشاريع المناسبة. و هذه خطوة عملية باتجاه اللامركزية التي طالما نادى بها الملك .الثاني الإلتزام بتنمية المحافظات. وهذا أمر لا بديل عنه ولا بد من التعامل معه اليوم قبل غد. لماذا لا تكون هناك خطط ومشاريع حقيقية و مدروسة و منوعة لتنمية المحافظات وفي مقدمتها معان كخطوة أولى؟ لماذا لم تستعمل أجزاء من المنحة الخليجية لهذه الغاية؟ هل هناك دليل للمستثمر الذي يمكن أن يتجه إلى معان أو أي محافظة أخرى؟ هل لدى الحكومة “برامج للمشاركات الاستثمارية” حتى تعطي الثقة للمستثمر؟ وبعد فترة كافية تنسحب الحكومة ليحل محلها المستثمرون المحليون. أين البرنامج الاقتصادي والاجتماعي الذي من شأنه أن يجعل المواطن العادي والمستثمر البسيط والمدخر المتواضع، و باطلاع المجلس التنموي، شريكا في العملية الاقتصادية فيتم توليد فرص العمل ليلتحق بها الشباب الثالث القانون والأمن الاجتماعي . صحيح أن هناك مشكلات أمنية واجتماعية وعقائدية، في معان وفي غيرها من المحافظات. وهناك تهرب وانحرافات وانجرافات هنا وهناك.. ولكن تجربة الكثير من دول العالم تبين بوضوح أن البوابة الرئيسية للدخول إلى هذه المشكلات جميعها هي الديموقراطية المحلية من جهة والتنمية الإقتصادية الاجتماعية من جهة أخرى وسيادة القانون والنظام من جهة ثالثة. فلا استقرار مع الفقر ولا التزام بالقانون مع البطالة ولا عدم الانجرار والانجراف وراء كل الشرور في غياب سلطة القانون و المشاريع التي يعمل بها المواطنون.
أن اكتساب ثقة المواطنين وإعادة الهيبة للدولة في معان ممكنة، ولكن يتوقع المعانيون مقابل ذلك مشاركتهم، و إعادة الكرامة المعيشية لهم، وإعطاء الفرص للشباب ليعمل قريبا من أهله وبيته وأصدقائه. الإمكانات كثيرة ولكن التعامل معها من منطلق جديد يقوم على إرادة التنمية والتغيير والمشاركة و اللامركزية هو الشرط الأساسي الذي يضمن تحقيق ذلك.الرابع حماية الخاصرة الضعيفة.ذلك أن اتساع مساحة المحافظة (33) ألف كم2 و صغر الحجم السكاني(120)ألف نسمة، والطبيعة الجافة المرهقة،و حالة الضيق والبطالة، كل ذلك تستغله الفئات الخارجة على القانون من خارج المحافظة، سواء كانت فئات سياسية متطرفة أو للمتاجرة والتهريب في الممنوعات و على غرار النموذج السيناوي. و هذا يتطلب” وجود الأمن بقوة و بالتعاون مع الأهالي” وبالتوازي مع برامج التنمية الإقتصادية الاجتماعية المكثفة الخامس الإبداع في الحلول .لدينا جامعة الحسين في معان و معاهد فنية، فلا ينبغي أن تكتفي هذه بتخريج الشباب وتعليمهم على أهمية ذلك، وإنما عليها أن تكون العقل المفكر لتنمية المحافظة و البحث عن حلول لمشكلاتها. وعلى الحكومة أن تستثمر هذا العقل المفكر. ما هي القطاعات و المشاريع التي يمكن تطويرها في الزراعة والصناعة والسياحة والمياه والطاقة والصناعات الثقيلة و النقل؟ وما هي المهارات اللازمة ليتحول الشباب إلى رياديين ينشئون مشاريعهم بأنفسهم؟ وما هي الحوافز التي يمكن أن تقدمها الدولة للمستثمرين؟ وما هي البلدان التي يمكن الإفادة من تجربتها في تطوير مساحات ومحافظات مشابهة لما هو في معان؟ القائمة لا تنتهي، ولكن العموميات لا تحل المشكلة. وإنما يحلها الدراسات الميدانية المعمقة والتي يمكن أن تعطي الجامعة والمعاهد الدور الاجتماعي المطلوب.السادس تحفيز الشباب. فمن حق الشباب في كل محافظة أن تكون ليهم النوادي الثقافية والنشاطات الفنية وفرص التدريب والتأهيل و تمويل المشاريع و كل ما من شأنه أن يدفع الشباب إلى العمل و يبعد عنهم التهميش والإحباط.
المسألة ليست سهلة بعد أن تفاقمت لسنوات وسنوات، ولكن الحلول ممكنة، ووجهاء المحافظة و شخصياتها و شبابها سيكون لهم، إذا تم التواصل الصبور معهم، دور ايجابي في بناء مستقبل أفضل. من أين يمكن تمويل المشاريع ؟ هناك مداخل كثيرة أولها المسؤولية المجتمعية للشركات .ولتفرض الدولة ،كبداية للمسيرة، الضريبة المناسبة على بيع وشراء الأسهم والسندات، كما هو في الكثير من دول العالم، و تخصص عائداتها للتنمية. و حين تتوفر إرادة الدولة على التغيير باتجاه المشاركة المحلية و التنمية النشطة والقانون والاقتصاد الاجتماعي، فإن معان و رجالاتها سيكون لها شأن مميز لتكون نموذجا لمحافظات أخرى.
د.ابراهيم بدران/معان والمحافظات… الخروج من الأزمة
14
المقالة السابقة