شاهر .. أبا خالد.. كلنا فاقد وأنت فقيد!!

عروبة الإخباري _ كتب سلطان الحطاب
لم أكن أتوقع أن يسبقني القدر إليه بعشرة أيام، فقد كنت سأقابله في ألمانيا بعد منتصف الشهر الجاري أكتوبر… اذ حدثني قبل أسبوعين من هذه الكتابة وكان إلى جواره صديقه السوري، قال لي: “هو يريدك أن تأتي لتجلس معه بضعة أيام وتراجع مذكراته التي كتبتها ولم يبقى منها إلا القليل”…
كنت اسأل إذا ما المطار في عمان قد استأنف رحلاته لأتوجه إليه، ولكنهم قالوا ليس قبل العاشر من أكتوبر، فقلت أنتظر.
أمس حين كنت أشرب قهوة الصباح وأقلب رسائلي الإلكترونية قرأت ( توفي شاهر عبد الحق هذا الصباح) فسقط الهاتف من يدي و توقفت عن الحركة وكدت اجمد بمكاني.. هل يعقل أن يموت؟ ولماذا وكيف؟ ثم انتزعت نفسي من الحالة التي خلفتني كتلة هامدة، وبدأت أتذكر وقائع آخر رحلة الى ألمانيا التقيته فيها في مقر إقامته بالفندق و جلوسي معه لثلاثة أيام، كنا نخرج نتمشى في شوارع المدينة الألمانية الجميلة التي أحبها وتحدث عنها وقد تجولنا في أسواقها…
كنت قبل وصول خبر إصابته بالسرطان قد التقينا في أديس أبابا حيث زرته فيها ثلاث مرات في أوقات مختلفة على مدار ثلاث سنوات، وقد قمت بإنجاز كتاب عن (أثيوبيا) كان رغب أن انجزه ليهديه إلى الحكومة الإثيوبية التي كان يتمتع بعلاقات طيبة مع معظم المسؤولين فيها بحكم استثماراته العديدة منذ اكثر من ثلاثين سنة…
كان شاهر لا ينقطع عن أثيوبيا، التي كان يقيم في عاصمتها اديس ابابا طوال شهر رمضان، خاصة بعد أن كانت أحداث اليمن قد أوقفت الرحلات إليه إلى صنعاء… وكان في أديس أبابا في الفندق يستقبل العديد من أصدقائه اليمنيين والعرب ويقيم لهم ولائم الإفطار وطقوس الشهر ويستقدم أحد الأئمة ليقيم الصلاة في كل موعد إفطار، لقد كان يحول أجواء الفندق الى أجواء رمضانية بامتياز تلفت انتباه المقيمين…
في اللقاءات الثلاثة في أديس أبابا اقترح عليّ أن أكتب مذكراته، وبدأت استمع إليه وأسجل، فأدركت أن الرجل لم يكن اقتصاديا فقط أو صاحب استثمارات في اليمن ومصر وأثيوبيا ومناطق عديدة من العالم، بل تعرفت على شخصية عصامية مثابرة ونشطة وذكية انخرط في العمل مبكرا منذ كان صبيا في المدرسة، وقد ترك مقاعد الدراسة مبكرا ليمارس نشاطات اقتصادية كان يحبها… فقد تعلق بالتجارة التي بدأها موزعا للمشروبات الغازية وانتهى بامتلاك أكبر مصانع لها على مستوى مصر كلها…
في حياته انه بدأ يتعرف إلى السياسيين اليمنيين بعد وقوع الثورة اليمنية عام 1962 ، حيث عاد من المهجر في كينيا إلى اليمن بعد سماعه لوقوع ثورتها وكان شابا يافعا لم يبلغ الخامسة والعشرين… و في صنعاء تعرف على الرئيس عبد الله السلال ومجموعة كبيرة من السياسيين والاقتصاديين، وقد استأجر ( دار البشائر ) وهي قصر للإمام البدر اقام فيه مطعما ونزلا، و بدأت شهرته تعلو وارتبط بسياسيين وكان يدعوهم ويلتقي بهم وفي أحيان كثيرة، كان يموّل رحلات لهم حين أخذ ينخرط أكثر في أعمال التجارة بعد قيام الثورة والاستفادة من العلاقات الجديدة مع مصر التي رعت الثورة اليمنية وأمدتها بكل أسباب الحياة…
لم تستطع السياسة التي عمل فيها بشكل غير مباشر ومن وراء حجاب أن تأخذه من نشاطه الاقتصادي، فقد ظل يضع بينه وبينها فواصل وهو يرى طبيعة السياسيين وأساليبهم، ولكنه ظل يتعامل مع الواجهات السياسية النافذة وقد تمكن من تسويق اليمن وثورتها، وكان على صلة طيبة مع دول جوار اليمن لصالح اليمن، فاحتفظ بعلاقات مع الملوك السعوديين ابتداء بالملك فيصل والملك خالد والأمير سلطان والأمير عبد الله وغيرهم من المسؤولين السعوديين المعنيين بالشأن اليمني، كما وفر بنية لوجستية للتفاوض على الحدود وحل الخلافات و نقل الرسائل وكان قد وضع طائرته الخاصة، إذ أنه كان أول شخصية يمنية تمتلك طائرة خاصة في خدمة ذلك…. وبعد رحيل صديقه الرئيس السلال كان على علاقات طيبة مع الرؤساء الذين جاءوا من بعده… الارياني.. ثم الحمدي وعلي عبد الله صالح الذي كان قريبا منه ومستشارا غير معين في كثير من القضايا التي تهم اليمن في علاقاتها الاقتصادية والخارجية، فقد ساعد على جدولة الديون اليمنية لروسيا وساعد على تمويل اليمن بأشكال مختلفة من السلع، وكان من قبل قد بنى أول فندق كبير في صنعاء هو فندق سبأ…
كان دقيقا وهو يسرد ذكرياته وكأنه يزن ذهبا فقد كان يعيد التعبير أكثر من مرة ويعدل ويضيف ويسأل أصدقائه الجالسين ممن عاصروا الفترات التي يتحدث عن وقائعها، كنت احسده على ذاكرته القوية وعلى قدرته على حفظ الأرقام والأسماء واستدعاء الأحداث المهمة، وبعضها لم يكشف عنها إلا من خلاله ولم أجد لها تفاصيل إلا عنده خاصة مفاوضات الحدود اليمنية السعودية و اتفاقية جدة عام 2000 وقبل ذلك مع اتصالات وحمل رسائل الى العقيد القذافي وإلى صدام حسين الذي التقاه أكثر من مرة قبل الحرب على العراق وحتى حين كان العراق محاصرا، له ذكريات شخصية حميمة مع الملوك السعوديين وخاصة مع الأمير سلطان… وكان يزكي كثيرا من المسؤولين اليمنيين للمناصب وكان يحتفظ بعلاقات طيبة مع اليمنيين في الشمال من أصحاب الفكر اليميني والديني أمثال إبن الأحمر وحتى مع زعماء الجنوب ممن تولوا المسؤولية مثل الرئيس الشعبي والرئيس سالمين وغيرهم، فقد كان يمنيا لكل اليمن ومحبا للوحدة وداعما لها وكان يتعامل بندية مع علي عبد الله صالح وكان يقول: “لم يكن الرئيس يغمض عينه عن أي شيء أقوم به بل كان يتبعني ويعين من يتبعني ليظهر أنه يعرف كل حركاتي وكل شاردة وواردة عني” …
على امتداد 150 صفحة كتبت مذكرات شاهر عبد الحق وفيها وقائع مهمة وخطيرة وأخرى طريفة و جميلة، فقد عرفت الرجل عن قرب قبل ان أكتب عنه وكان محبا للأردن والأردنيين فقد عرفني عليه صديقي عبد الحي المجالي قبل أكثر من ثلاثين سنة، وقد صاحبته في رحلات إلى ماليزيا والعراق وسويسرا ومصر واليمن واثيوبيا وعُمان وألمانيا والتقيته في عمان_الأردن عديد من المرات، وكان يحب مجالستي كما ذكر لي وقد أحب أن أكتب مذكراته.
كان شاهر عبد الحق يحب التراث العربي والتاريخ و سير العظماء و كان يتابع مسلسلاتهم ويجبر مجالسيه على المتابعة والسماع، وكان يحوّل مجالس “القات” الى صالونات أدبية وفكرية وتراثية كان يقرأ ويتابع وكانت أكثر ثقافته سماعية…
كنت قرأت عليه ما كتبت عنه في مذكراته التي املاها عليّ بلهجته اليمنية، وكان عليٌ أن اجعلها بالفصحى أو القريبة من الفصحى بأسلوب محبب ولكنه كان يرفض أن اخرج عن مضمون النص ويقيد حتى حركة الأسلوب لأنه كان يخشى ان يكون قد روى أشياء على غير الدقة…
سأنشر مذكرات شاهر عبد الحق، فقد استكملت إلا فصلا ظل يؤجله وظل محتارا فيه وذلك عن ايامه مع علي عبد الله صالح، لكنني استطعت ان أدون مذكراته عن طفولته العجيبة التي كانت تغرق في الفقر والعوز ودهشة الطفل الذي حاول أن يكتشف العالم، وأن يقارعه وان ينتصر على الحياة وأن ينتقل من طفل كان يحلم أن يلبس حذاء إلى من امتلك طائرة خاصة و ثروة طائلة وما بين ذلك وهذه مسيرة شاهر عبد الحق التي سأضعها بين يدي أصدقائه ومحبيه ليتأملوا حياة هذا الرجل الكبير الحافلة بأشياء مدهش،ة اذ لا أدعي فيها أنني كتبت عنه كل شيء فقد ظل الرجل محافظا وهو يسردها وقد احتفظ بالكثير لنفسه دون ان يقول فلم يكن الرجل يحب الإعلام أو الظهور الإعلامي، وبالكاد كنت أقنعه ان ينفتح على ما يقول فكان يرفض أحيانا ويستجيب أحيانا ويقول لولاك ما تحدثت وينظر إلى أصدقائه الذين كانوا يشجعونه لمواصلة السرد حين كان يذهب باتجاه الرد على تلفونات البزنس والعمل أو إستكمال مسلسل تاريخي يعشقه فيؤجل الكتابة، وكان يقول: لي لماذا انت مستعجل فكنت اصمت وأعاود الطلب كنا قد اتفقنا على اللقاء الذي لم يتم فقد سبق القدر موعدنا ليخطف هذا الرجل الذي سيترك فراغا هائلا وجرحا من الألم عميقا في نفوس كل من عرفه أو تعامل معه، فقد احبه من عرفوه وأساء معرفته من لم يعرفوه، فقد كان رجلا خلافيا جعلت شهرته العارمة له اعداء لم يسيء اليهم وحتى لم يعرف اكثرهم كما هو الحال في عالمنا العربي وفي اليمن تحديدا…
اعدكم أنني سأنشر مذكراته وأنا متأكد أن الذين لم يعرفوه سيعرفونه، وان الذين عرفوه سيعرفونه أكثر وسيحبونه أكثر كما أحببته وحزنت لرحيله.. لا املك غير الابتهال إلى الله أن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جنته وأنا لله وأنا إليه راجعون ..

شاهد أيضاً

جمعية جذور لحقوق المواطن: نعم لحرية الصحافة والإعلام ولحماية الصحفيين لا لقمع او تقييد حرية الصحافة والتعبير

عروبة الإخباري – يحتفل العالم في الثالث من أيار في كل عام باليوم العالمي لحرية …