استعاد النظام السوري مدينة حمص بعدما حولها إلى جثة هامدة، إذ كان «النجاح» الوحيد الذي حققه أنه حاصرها طوال سنتين وظل يقصفها بصورة شبه يومية بكل ما يملك من قذائف وصواريخ وحمم حتى أغرق المدينة في بحر من الدماء. وحولها إلى خرائب وأنقاض. وأحال حياة سكانها جحيما، قتلهم وجوعهم وشردهم وقطع عنهم سُبُل الحياة. لكن الصمود الأسطوري للحماصنة احتمل كل ذلك ببسالة خرافية، حتى غدت المدينة رمزا لإصرار الثورة على تحدي نظام الأسد، ونموذجا فذا للاستعصاء والصمود، الذي دفع ثمنه الجميع بلا استثناء. الرجال والنساء والشيوخ والأطفال والمرضى والأصحاء، إذ تجمدوا في البرد القارص، وأكلوا حشائش الأرض حتى المسموم منها، وشربوا المياه الملوثة والمخلوطة بالطين.
حين قامت الثورة في شهر مارس من عام 2011 ارتفعت راياتها بسرعة في حمص، بعدما انطلقت شرارتها في درعا. ومنذ ذلك الحين صارت مدينة الوليد (نسبة إلى الصحابي خالد بن الوليد الذي دفن فيها ودمر القصف قبره وضريحه) هي عاصمة الثورة وأيقونتها. وهو ما أثار غضب النظام ونقمته. فحمص هي ثالث أكبر وأهم مدينة في سوريا، بعد دمشق وحلب، ثم إنها تمثل حلقة الوصل بين العاصمة دمشق وبين مناطق الساحل التي يشكل العلويون (الذين ينتمي إليهم الرئيس بشار الأسد) غالبية سكانها. وباستعادتها فإن خريطة الإقليم العَلَوي تبدو أكثر تجانسا وتماسكا، علما بأن ذلك الإقليم موصول بمنطقة البقاع اللبنانية من الجهة الشمالية، ومعروف أن البقاع تمثل المعقل الأهم لحزب الله، الحليف الأساسي لنظام الأسد.
إزاء طول الحصار واستمرار القصف الوحشي واستعصاء المدينة على السقوط، فإن بوادر كارثة إنسانية لاحت في الأفق جراء الدمار والجوع والأمراض إلى جانب تزايد أعداد المصابين والجرحى، وهو ما لم يبال به النظام الذي قصد كل ذلك، وأبدى استعدادا لإبادة السوريين وتدمير البلد عن آخره، في سبيل القضاء على معارضيه ولضمان احتكاره للسلطة، حين أنهك النظام الذي فشل في إسقاط المدينة، في الوقت الذي فاض فيه الكيل بالحماصنة الصابرين والمقاتلين الصامدين، فإن الباب انفتح للوساطات التي يفترض أنها تمت تحت رعاية الأمم المتحدة، في حين تتحدث التقارير الصحفية عن دور أساسي للإيرانيين والروس في إنجازها. وهم حلفاء النظام الذين دعموه منذ قامت الثورة وحتى الآن. وكان محور الصفقة هو إطلاق الثوار لعدد من المعتقلين المحسوبين على النظام، مقابل تأمين خروج المقاتلين بأسلحتهم من المدينة وانتقالهم إلى أماكن أخرى في أطراف المحافظة. وهو ما بدأ تنفيذه يوم الأربعاء الماضي 7/5.
لا يستطيع نظام الأسد أن يدعي انتصارا على الأرض، وإن عُدَّ خروج المقاتلين من المدينة انتصارا معنويا للسلطة. وبالمثل فإننا لا نستطيع أن نقول إن الثورة فشلت كما ادعى البعض، وإن كان غاية ما يقال إن المقاتلين خرجوا مرفوعي الرأس في حمص دون أن يسلموا أنفسهم أو سلاحهم. وكل الذي حدث أنهم انتقلوا من عاصمة المحافظة إلى أطرافها، وهو ما اضطر النظام إلى القبول به مع ذلك فبوسعنا أن نقول إن النظام دخل إلى حمص وقد أعلن ضمنا عن عجزه عن هزيمة المقاومين فيها. كذلك فإن المقاومين خرجوا معلنين ضمنا عن عجزهم عن الاستمرار في الدفاع عنها. وحول هذه النقطة الأخيرة لغط كثير في أوساط المعارضة أرجع ما جرى إلى الخلافات الحاصلة بين فصائل المقاومة، وإلى التدخلات الإقليمية التي أضعفت صف الثورة وقوت من شوكة خصومها.
لم يقصر من قال إن حمص «شهيدة الثورة» وكونها قدمت للسوريين والسوريات ما لم يقدمه غيرها في تاريخ العرب القديم والحديث. حتى ظلت منذ قامت الثورة منارة لكرامة الوطنيين حين لم تبخل عن تقديم كل ما يتطلبه انتصار الشعب في معركته من أجل الحرية وتكبدت من الخسائر ما لم يتكبده غيرها جراء القتال والحصار (ميشيل كيلو ــ الشرق الأوسط 10/5).
أحد الأسئلة المثارة ما يلي: لماذا استمات النظام لكي يستعيد حمص سواء بالقصف والتدمير والتجويع أو من خلال قبول الوساطة مع الثوار لأول مرة وتأمين خروجهم بأسلحتهم تحت أعين ممثلي قواته النظامية؟. الاحتمال الأرجح أنه أراد أن يستعيد المدينة المهمة لكي يضمن التواصل بين دمشق والشريط الساحلي الجبلي الذي تقطنه الأغلبية العلوية. وبذلك التواصل يتشكل ما يمكن أن يسمى إقليميا علويا تحت سيطرة نظام الأسد يمكن أن يكون سندا داعما له في الانتخابات الرئاسية التي يفترض إجراؤها في الثالث من شهر يونيو المقبل. ذلك أن دوائر السلطة تشك في أن الجزء المتبقي من القطر السوري بأغلبيته السنية ليس مضمون الولاء للأسد. من ناحية أخرى يتحدث بعض المحللين عن أن ذلك الإقليم العلوي المفترض الموصول بالبقاع اللبنانية يمكن أن يشكل قاعدة للدويلة العَلَوية التي يتصور البعض أنه يمكن تأسيسها إذا ما تدهورت الأوضاع وأدى الأمر إلى تقسيم سوريا في نهاية المطاف، وفي ذلك الوضع المستجد فإن حمص مرشحة لأن تكون عاصمة الدويلة الجديدة.
رغم أن حمص تحولت إلى خرائب وأطلال تتناقل وسائل الإعلام صورها هذه الأيام، إلا أن ذلك لا يقلل من مكانتها الشامخة في الوعي والذاكرة. ذلك أن تلك الخرائب والأطلال هي التي عززت مكانتها في التاريخ. إذ كتبت شهادة الصمود الذي تحلت به والبطولة النادرة التي سجلتها.
فهمي هويدي/بكائية على أطلال حِمصْ
13
المقالة السابقة