يتردد في كثير من المحافل الدولية ان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قد يجد نفسه في سورية كما وجد سلفه كوفي أنان نفسه في رواندا عاجزاً عن ايقاف المجازر والكارثة الإنسانية لأنه – باعترافه – لم يقم هو ولا الأمم المتحدة بكل ما كان بوسعهما القيام به لمنع تفاقم الكارثة. بان كي مون ليس وحده المسؤول عن الفشل الذريع للأسرة الدولية في سورية لكنه ليس بريئاً كليّاً من ذلك الفشل مهما أراد تحويل اللوم على مجلس الأمن الدولي وبالذات الدول الخمس الدائمة العضوية وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا. أمام بان كي مون في ولايته الثانية فترة سنتين ليصيغ لنفسه تلك السيرة التاريخية legacy التي يريدها لنفسه بصفته الأمين العام الذي أنهى الإفلات من العقاب اثناء ولايته. فإما أن يتحلّى بان كي مون بالشجاعة والإقدام والرؤيوية وينسج لنفسه تلك السمعة التاريخية بالذات في سورية قبل أن تصبح «رواندته»، أو ينكمش ويتقلّص لترافقه سمعة الأمين العام البيروقراطي الذي يفتقد القيادة ببعديها الكاريزماتي والأخلاقي.
لا يكفي لبان كي مون ان يكون مخلصاً للفلسفة الكونفوشية التي تؤمن بالعمل الدؤوب وسيلة للحلول. فالعمل الدؤوب وحده – مع الاحترام لتلك الفلسفة – لا يقود الى حلول. الإدمان على استثمار ساعات طويلة في العمل ليس الوسيلة الى الرؤيوية الضرورية والشجاعة المطلوبة لإيجاد الحلول. بان كي مون أحاط نفسه بالمخلصين لفلسفته ليحكم عليه من خلال الساعات الطويلة المضنية في مقر العمل.
الكارثة السورية وصمة عار على جبين مجلس الأمن قبل أن تكون على جبين الأمانة العامة للأمم المتحدة لكن طأطأة الرأس أمام فشل مخجل لمجلس الأمن هي بدورها علامة ضعف ووهن في قيادة الأمانة العامة.
عندما كان كوفي أنان أميناً عاماً للأمم المتحدة سبق وقال مدافعاً عن مواقفه انه «خادم لمجلس الأمن» الدولي. كان كلامه خاطئاً ذلك ان ميثاق الأمم المتحدة وأصول توزيع الصلاحيات عند انشاء الأمم المتحدة نصّ على استقلالية الأجهزة عن بعضها البعض. فلكل جهاز صلاحيات مستقلة عن بعضها: مجلس الأمن أو الجمعية العامة، أو الأمانة العامة، أو المحكمة الدولية. كان يجب على بان كي مون ان يتبنى الدفع بالمسألة السورية الى مجلس الأمن أكثر من مرة قبل بدء سلسلة الفيتو المزدوجة لروسيا والصين، وأثناءها وبعدها. له الحق ان يطلب انعقاد مجلس الأمن أو الجمعية العامة بموجب المادة 99 من الميثاق وهدفها اعطاء الأمين العام أدوات القيادة الأخلاقية ولم يفعل.
حان لبان كي مون أن يكسر جدار الصمت وان يغضب ويغضب كثيراً. حان له أن يُقلِع عن تقاليد توحي بأنه يرتاح الى اللوم الذي يقع على مجلس الأمن لأنه يعفيه هو من اللوم. فعلى بعد سبعة كيلومترات عن دمشق يأكل الجياع من الأبرياء السوريين القطط والكلاب، وفي مخيمات الأونروا للفلسطينيين في اليرموك شهادة على تقوقع وتردد الأمانة العامة للأمم المتحدة بدلاً من رفضها القاطع وبصوت عالٍ تجويع اللاجئين الفلسطينيين عمداً كأداة من أدوات الحرب. وفي الجهد الذي قامت به منظمة «اليونيسيف» للأطفال بتوقيع مساعدات لسورية بقيمة 42 مليون دولار لتوزع عبر الحكومة السورية كانت تلك الحكومة نفسها تقصف المدارس في حلب وتقتل الأطفال. فنعم، حان لبان كي مون ان يغضب ويغضب كثيراً.
ولكن بان كي كون يرضخ، مرة أخرى، للتقاليد والرسميات. لذلك يرضى برأي لوكيله للشؤون القانونية يمنع وكالات الأمم المتحدة من عبور الحدود لتقديم المساعدات للسوريين الذين هم في أشد الحاجة للمساعدات في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. والحجة أو التبرير هو ان هذا يتطلب الموافقة المسبقة للحكومة السورية أو يتطلب قراراً صريحاً من مجلس الأمن.
السجال القانوني الذي وصفته كبيرة المسؤولين عن الوضع الإنساني فاليري آموس بأنه «مضيعة للوقت الثمين في سجالات نخبوية» انما هو سجال حول أخلاقية الأمانة العامة للأمم المتحدة.
بكلام آخر، ان بان كي مون وفاليري آموس يرضخان لتسييس المبادئ الإنسانية فيما عليهما ان يغضبا ويغضبا كثيراً ويصرّا على ايصال المساعدات الى أكثر من 3,5 مليون شخصاً. قرار مجلس الأمن الأخير 2139 الذي تم تبنيه بالإجماع يجيز لبان كي مون اتخاذ قرار عبور قوافل المساعدات عبر الحدود السورية من المعابر التي لا يسيطر عليها النظام، لو شاء التفكير بصورة تتماشى مع التحديات الكارثية بدلاً من التقوقع في أحضان قرار للجمعية العامة عمره 25 سنة. إذا لم يدق بان كي مون ناقوس الهلع ويحشد الدعم لمقاربة نوعية للأزمة السورية لن ينفعه الندم ولا لوم النفس لاحقاً.
ممثل الأمين العام في الملف السوري، الأخضر الإبراهيمي يستعد لإنهاء مهمته الشهر المقبل بلا تجديد لولايته التي تنتهي بعد اجراء الانتخابات الرئاسية في سورية رغم انف الأمم المتحدة واستثمارات الإبراهيمي وبان كي مون في جنيف – 2. فمنذ البداية كان واضحاً ان ايران وروسيا تراوغان في مسألة الحل السياسي عبر هيئة حكم انتقالي بديل عن حكم الأسد. طهران كانت أكثر صدقاً برفضها القبول بمرجعية مؤتمر جنيف – 2، أي تطبيق بيان جنيف – 1، وإنشاء الهيئة الانتقالية. موسكو خدعت عمداً وفي بالها منذ البداية التمسك بالأسد الذي تمده بالمعونات العسكرية ليس فقط الدعم السياسي وبالحماية من المحاسبة.
بعض الديبلوماسيين الغربيين بدأ يتحدث عن دور ايراني في العملية السياسية السورية يُقاس بنفوذ ايران «الذي بات أكبر من النفوذ الروسي في سورية» مع ازدياد شحنات الأسلحة ونظراً للدور الذي لعبته في المفاوضات على فك الحصار عن حمص لخروج المقاتلين. بريطانيا تريد اشراك ايران في أية عملية سياسية جديدة، وهناك من يؤيدها في ذلك، انما هناك مَن يعارضها أيضاً.
المملكة العربية السعودية مصرة على «عدم اضفاء الشرعية» على الدور الإيراني في مستقبل سورية. ويريد سفير مصر لدى الأمم المتحدة معتز خليل تفعيل مقترح مصر لمعالجة اقليمية للمسألة عبر لجنة تضم مصر والسعودية وإيران وتركيا. يفعل ذلك رداً على محاولات دولٍ غربية القفز على الدول العربية بتركيزها على محورية الدور الإيراني في مستقبل سورية ليقول: ليست ايران بمفردها، بل نحن أيضاً.
وعلى بان كي مون اختيار شخصية قوية لتحل مكان الإبراهيمي لا تتحكم بها المعطيات اللغوية فليس ضرورياًَ ان يكون الخلف عربياً بل الأفضل ألاّ يكون كي يتحرر من قيود العلاقات العربية – العربية. كمال مرجان الذي ذُكر اسمه كان مثقلاً بماضيه كوزير في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي. سعيد جينيت الجزائري الجنسية مثقل بكونه موظفاً دولياً يخلف رجلاً ذا سمعة دولية ضخمة بغض النظر عن كونه عربياً أم لا. المهمة تتطلب شخصاً كانت له مناصب كبيرة انما له أيضاً صفات الجرأة والرؤية والإقدام على مقاربة ضرورية جديدة لإيقاف التدهور الى الحضيض في سورية. ومن الأسماء التي تُذكر كل من رئيس الوزراء الاسترالي السابق كيفن رود، والوزير الإسباني السابق خافيير سولانا الذي تقدّم كثيراً في السن. رود يبدو مرشحاً منطقياً سيما إذا أحاط نفسه بمفاوضين مخضرمين يفهمان البيئة السورية السياسية والتاريخية، أحدهما بالتأكيد عربي.
والمبعوث الأول لسورية، كوفي أنان اعتمد على توافق الدول الخمس في مجلس الأمن كأساس لإنجاح مبادراته. الإبراهيمي اتخذ أساساً لجهوده التوافق الأميركي – الروسي. ربما على المبعوث أو الممثل الثالث أن يتخذ القرار 2139 باباً رئيسياً لمقاربة جديدة تبني على جنيف-1 وجينف-2. فهذا القرار يفتح الباب على معالجة انسانية/ أمنية عبر الحدود وهو أيضاً يفتح النافذة على محاسبة كل من يرتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية في سورية أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو من خلال حفنة من الدول تقيم محكمة لهذا الهدف. بان كي مون قادر على تفعيل القرار 2139 بصورة استثنائية تدهش من افترض انه عاجز عن ذلك.
ومن المفيد ان يطلب بان كي مون من أحد الكبار في الأمانة العامة ان يتولى مهمة جانبية تمهيداً لدور مباشر للأمين العام في محاولة التقريب بين السعودية وإيران ليس في الملف السوري حصراً وإنما في الملفات المطروحة اقليمياً ودولياً. وهذا يتطلب استراتيجية خلاّقة غير مُثقلة بالماضي الشخصي. ويتطلب الثقة بالنفس والإقلاع عن الاختباء في ظل مجلس الأمن وأعضائه الخمس خصوصاً.
وهناك بين الدول الخمس من يغيّر مواقفه قليلاً أو شيئاً فشيء. الصين بالذات تبدو جاهزة أقله حالياً، للكف عن الالتصاق التلقائي بالموقف الروسي نحو سورية. لولاها لما تم تبني 2139. وعليه، هنا فرصة نادرة للعمل الهادئ مع الصين لمقاربة جديدة سيما وانها تبدو مُحرَجة أمام تفاقم الكارثة الإنسانية وإلصاق اسمها بتلك الكارثة، أقله في الرأي العام العربي.
هناك أكثر من اقتراح وفكرة، انما أولى الخطوات والمحطات هي في ادراك بان كي مون ان أمامه سنتين لصنع تاريخه. العبء الأخلاقي يقع عليه. أما عبء صنع سمعته، فهو المسؤول الوحيد عنه لأنه يملك خيارات عدة مهما تملّص منها. فشبح رواندا يتربص لبان كي مون في سورية.