يوم الأحد الماضي 13 أبريل نشر لي في هذا المكان عامود كان عنوانه «صافرات الحزن اليومي». تحدثت فيه عن شهادات التعذيب باتت تبثها كل يوم تقريبا مواقع التواصل الاجتماعي، وأوردت شهادتين كانت إحداهما صارخة وضحيتها شاب عمره 19 سنة، هو عمر جمال الشويخ الطالب بالسنة الأولى بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر. وذكرت أنني وقعت على هذه الشهادة في موقع «بوابة يناير»، وأن الأستاذة أهداف سويف الروائية المعروفة أشارت إليها في مقالة نشرتها لها جريدة «الشروق» في 10 أبريل الحالي. ولم أشأ أن أشير إلى بقية المصادر التي تناقلت قصة الشاب. إذ كانت شبكة «يقين» الإخبارية قد نقلتها كاملة على لسان أمه في المؤتمر الذي عقدته حملة «الحرية للجدعان» في نقابة الصحفيين (وهي موجودة بكل تفاصيلها على اليوتيوب). كما نشرتها جريدة «الوفد» في مقال كتبه زميلنا علاء عريبي، في نفس يوم 13/4 الذي ظهر فيه ما كتبته في جريدة «الشروق»، وكانت زميلة أخرى هي الأستاذة فاطمة يوسف قد سبقتنا إلى نشر القصة في صحيفة «الشعب الجديد» يوم 9/4.
كل هؤلاء نشروا التفاصيل المفزعة التي ذكرتها، لكنني أضفت فقرة قلت فيها ما نصه: إنني أفهم أن تحال للتحقيق الوقائع المروعة التي يتحدث عنها الحقوقيون والشهادات التي تصدر عن المعتقلين أو ذويهم للتثبت من مدى صحتها، ومحاسبة المسؤولين عنها في هذه الحالة. ولكن تجاهلها من ناحية أو نفيها من جانب الأبواق الإعلامية من ناحية لم يعد كافيا ولا مقبولا. بكلام آخر فإنني كنت واحدا من كثيرين استفزتهم قصة التعذيب الذي تعرض له الشاب عمر الشويخ، وجميعنا نقلنا نفس المعلومات، إلا أنني لم أنطلق من التسليم بالكلام المتداول، لذلك حرصت على المطالبة بالتحقيق في الوقائع ومحاسبة المسؤولين عنها إذا صحت، أو محاسبة مروجيها إذا لم تصح. لكن ما حدث بعد ذلك كان مدهشا ومحزنا ــ كيف؟ في مساء يوم النشر (الأحد 13/4) وجدت الموضوع مثارا في أحد البرامج التلفزيونية، وكان كل التركيز على ما ذكرت متجاهلا ما نشرته جميع الأطراف الأخرى، وظلت العبارة التي وضعت على الشاشة تشير إلى أن فلانا (الذي هو أنا) يقول إن المعتقلين يتعرضون للتعذيب والاعتداء الجنسي. وهي عبارة وردت حقا فيما كتبت لكنني لم أكن صاحبها، وإنما ذكرتها الأم في التسجيل الموجود على اليوتيوب والمتاح للجميع. كما ذكرتها بقية المواقع والمصادر التي أشرت إليها. ولم يكن ذلك هو التغليط الوحيد، لأن مقدمي البرنامج ذكرا أن القصة نشرتها في نفس اليوم صحيفة «الأوبزرفر» البريطانية، وهو أمر غير مستغرب لأن تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي يجعلها في متناول أي مراسل أجنبي أو صحفي عادي في مصر. كما تحدثا عن أن ما قلته نشرتها عدة صحف عربية، وهو أمر ليس جديدا لأن كتاباتي تنشرها منذ 12 عاما عشر صحف عربية في المشرق والمغرب، بعضها باتفاق وبعضها بغير اتفاق. لكن مقدمي البرنامج تجاهلا كل ذلك واعتبرا أن العملية جزء من مؤامرة جرى التنسيق فيها بين شخصي الضعيف وبين الأطراف الدولية والعربية، وكان الدليل هو نشر المعلومة في إنجلترا وتداول العامود الذي كتبته في عدة أقطار عربية. وهي النقطة التي وقف عندها مقدما البرنامج طويلا حيث اعتبرا أنني بما كتبت أسهمت في تنفيذ المخطط الجهنمي الذي يستهدف تشويه مصر وثورة 30 يناير المجيدة. فضلا عن الإساءة إلى جهاز الشرطة الذي يسهر على خدمة الوطن وتأمين المواطنين ضد غارات الإرهابيين وشرورهم. ورغم أنهما استضافا أحد ضباط وزارة الداخلية ليقول هذا الكلام. فإنهما لم يكونا بحاجة لذلك، لأنهما ظلا طول الوقت يزايدان على ما قاله الرجل، في التشديد على فكرة المؤامرة والضلوع في المخططات الدولية التي تستهدف مصر، وتمولها قطر وتركيا إلى جانب أجهزة مخابرات الدول العظمى وغير العظمى.
أحزنني تدهور المستوى المهني للشابين اللذين قدما البرنامج، لأن أي واحد منهما لو أدى واجبه قبل تقديم الحلقة، وفتح جهاز الكمبيوتر أو اللاب توب، لأدرك أن «المؤامرة» وهم كبير وأن المعلومات متداولة على نطاق واسع منذ عدة أيام. ومن ثم لما قال ما قاله ولأصيب بالخجل من تنفيذ ما طُلب منه. لكن الاثنين آثرا أن يتصرفا كمخبرين في جهاز الأمن الوطني وليس كمنتسبين إلى محطة تلفزيونية، ومن ثم قدما نموذجا لانقراض مهنة الإعلامي التلفزيوني، أيدا به فكرة خضوع البث التلفزيوني لتوجيهات الأجهزة الأمنية. وهي ظاهرة تعددت شواهدها في الساحة الإعلامية المصرية، غذاها التغير الحاصل في موازين القوى في المجتمع. حين تراجعت قيمة المواطن وارتفعت أسهم الأمن وأهله. بحيث ما عاد السؤال في أي محطة تلفزيونية يعمل مقدم البرنامج، ولكن إلى أي جهاز أمني ينتمي؟!
أما أكثر ما يثير الدهشة فإن البرنامج التلفزيوني المذكور اهتم بالتشهير والتحريض والتنديد بمسألة المؤامرة وبفكرة الإساءة إلى وزارة الداخلية، ولم يكترث بالقضية الأساسية المتمثلة في التعذيب وبما إذا كانت الوقائع المذكورة صحيحة أو مفتعلة ومكذوبة. ولا تفسير لذلك سوى أن معدِّيه رأوا السلطة ولم ينشغلوا بالمجتمع أو الضحايا. الأمر الذي يدعوني إلى التساؤل: إزاء ذلك التمييع للقضية من تآمر على من؟.
فهمي هويدي/مؤامرة!
13
المقالة السابقة