لا يبالغ الذين يقولون إنّ عدم التدخّل الأجنبيّ في سوريّة ضاعف موت السوريّين ومحنتهم وتهجيرهم، وأطال أمد المواجهة، كما ضخّم الخطر الناجم عن حركات التكفير القاتلة، فيما مكّن العفن لا من سوريّة فحسب بل من عموم منطقة المشرق العربيّ.
وقد صار واضحاً أنّ احتمالات تدخّل كهذا باتت متزايدة الضعف، وأنّها حتّى لو حصلت الآن فإنّها قد تندرج في خانة «القليل جدّاً والمتأخّر جدّاً». وتوقّعات «متشائمة» كهذه لم تعد تعوزها الأسانيد التي كثر الكلام عنها، من انعزاليّة إدارة باراك أوباما إلى نزعة الانكفاء عن التدخّل لدى الرأي العامّ الغربيّ على عمومه، ومن عجز ثوراتنا عن إغراء الرأي العامّ المذكور وتحريكه إلى ما خلّفته التجارب المُرّة لحربي أفغانستان والعراق في زمن تسوده الأزمة الماليّة والتحوّلات الاقتصاديّة الكبرى.
لكنْ، ومن دون الوقوع في أيّة نزعة رؤيويّة تفترض أنّ الكارثة شرط حتميّ للخلاص، يجوز التساؤل المتحفّظ: هل من الممكن أن توفّر المحنة الراهنة مقدّمةً لتحوّل في الوعي والسلوك تنبثق منه، على المدى البعيد، بل الأبعد، ظروف ملائمة للإقلاع السوريّ؟
بمعنى آخر، هل يمكن لليأس من التدخّل أن يمهّد لانتقال بؤرة التركيز من «السياسيّ» (إسقاط النظام بمعونة طرف خارجيّ) إلى «الثقافيّ» (مسؤوليّة الشعوب والجماعات عن مصائرها وبلدانها في صيغتها الوطنيّة الراهنة أو في صيغ أخرى)؟
يقال هذا وفي الخلفيّة أنّ العفن لفّ «السياسيّ» بفاعليه الرئيسين، أي النظام بعنفه الهمجيّ المصحوب بالتحلّل الميليشيويّ الذي يوازي تفتّت البلد ومناطقه وسلطاته، والثورة التي تكاد الحرب الأهليّة والأزمة الإقليميّة تبتلعانها فيما يتضخّم جيبها الإسلاميّ التكفيريّ على حساب جيبها الأقلّ إسلاميّة وغير التكفيريّ؟ أمّا حدود تأثير الخارج في تعديل هذا التوازن الصفريّ فضئيل وهزيل كما بات واضحاً وضوح الشمس. وهذا إن لم نقل إنّ تدخّلاً بالغ الضبط والمحدوديّة كهذا مرشّح لتزويد العفن بمزيد من موادّ الاشتعال والانتشار ومن طول المدّة.
وفي النهاية، ما العمل أمام الخيارين القاتلين، العسكريّ – الأمنيّ والجهاديّ التكفيريّ في ظلّ امتناع الغرب عن التدخّل؟
ولربّما شكّل انتقال كهذا، من «السياسيّ» إلى «الثقافيّ»، في ما لو أتيحت له الفرصة، ثورة ثانية لن تقلّ أكلافها عن أكلاف الثورة الأولى. وهذا، بطبيعة الحال، ثقيل الوطأة وبالغ الكلفة على السوريّين الذين تحملهم ظروفهم الشديدة الصعوبة على دفع المقابل الباهظ، لا عن تاريخهم فحسب بل أيضاً عن شطر عريض من تاريخ الشعوب العربيّة الأخرى. ذاك أنّ هذا الانتقال ينطوي على قطع مع تاريخ المنطقة البادئ مع حملة نابوليون على مصر والتي وُلدت معها طريقة في النظر إلى الشأن العامّ لا تزال سارية المفعول، إن لم نقل إنّها كانت الأمّ الولاّدة للشأن العامّ ذاته. وهنا تحتلّ المسؤوليّة عن الذات الوطنيّة موقعاً مركزيّاً، خصوصاً أنّ التجربتين السابقتين في إطاحة استبداد الحدّ الأقصى، أي العراقيّة والليبيّة، حيث كان التدخّل الخارجيّ شرطاً شارطاً لنجاحهما، لم تقدّما حتّى الآن أيّ برهان على وجود تلك المسؤوليّة.
فهل من احتمال كهذا، وهل من قدرة على تحمّله بعد كلّ ما تكبّده السوريّون على امتداد السنوات الثلاث الماضية؟ وهل ثمّة طرف يمكن أن يكون الحامل لهذا الاحتمال؟