كان مجلس النواب، غداة استشهاد القاضي رائد زعيتر، بمثابة مرآة بانورامية عاكسة بأمانة شديدة لحالة الغضب والسخط والالتياع، التي سادت مختلف أوساط الرأي العام، إزاء واقعة اغتيال أخرى بدم بارد، درجت إسرائيل على فعلها بتلقائية وساديّة مفرطة، منذ سنوات طويلة ماضية، ظل خلالها جنود الاحتلال يسترخصون دم الإنسان العربي، ويمنعونه حتى من مجرد الصراخ وإظهار الألم، ناهيك عن إفلاتهم من المساءلة، واكتسابهم حصانة ضد العقاب، باعتبارهم من طينة أخرى، وأبناء دولة فوق القانون.
وهكذا، فقد جاءت مطالبات مجلس النواب إلى الحكومة بطرد السفير الإسرائيلي وإلغاء المعاهدة، وما إلى ذلك، أقرب ما تكون إلى “فورة دم” حقيقية، تحاكي الحالة الشعبية العامة؛ وفق ما عبرت عنه المظاهرات ووقفات الاحتجاج وبيانات الأحزاب ومواقع التواصل الاجتماعي، وغير ذلك من صور الاستنكار التي كادت أن تنقل الأزمة من إطار علاقة إجبارية باهتة مع إسرائيل إلى داخل البيت، وأن تقلب الأولويات الوطنية والقومية رأساً على عقب، في أسوأ الظروف الإقليمية والدولية الراهنة.
على هذه الخلفية، دعونا في الأسبوع الماضي، من على هذا المنبر، إلى الرفق بأنفسنا التي امتلأ كأسها ألماً وفاض، جراء التمادي الإسرائيلي على دمنا طوال الوقت؛ ليس من خلال غض البصر عن الجريمة التي أشعلت نار الغضب في الضفتين، وإنما من خلال اعتبارها واقعة استفزازية تخاطب الأردن، شعباً ومجلس نواب وحكومة، ومن ثم توظيفها لكبح جماح تلك الروح المتغطرسة، وتدفيع إسرائيل ثمناً سياسياً على مقارفتها لهذه الفعلة المنكرة، لعل ذلك يضع حداً لممارسات الاحتلال المهينة على المعابر والحواجز، ويكبح اليد التي تضغط على الزناد بسهولة مفرطة.
وأحسب أن النتيجة التي أسفرت عنها جلسة مجلس النواب قبل أيام، قد آتت أكلها بالكامل، رغم بعض المآخذ على صخبها؛ إذ ربح الأردن دولة وحكومة، ولم يخسر المجلس الذي انتصرت فيه روح المسؤولية في اللحظة الأخيرة، وذلك عندما تجنب الجميع وضع الرصيد الأردني كله على الطاولة، وأبقوا على دروب الاشتباك السياسي مع إسرائيل مفتوحة، وأقفلوا أبواب أزمة داخلية محرجة، لا لزوم لها في هذه الآونة، وفوق ذلك حمل الدولة العبرية على الاعتذار لأول مرة، والقبول بلجنة تحقيق مشتركة، تعد سابقة غير مسبوقة في علاقات إسرائيل الخارجية.
صحيح أن هناك خيبة أمل شعبية إزاء تراجع مجلس النواب عن إنذاراته الحامية ضد الحكومة، وانتقاله من التهديد بحجب الثقة إلى منحها دفعة واحدة. إلا أن غضب المجلس لم يذهب سدى هكذا من دون أي نتيجة، إن لم نقل إن هذه الغضبة المستلهمة من فيض المشاعر الشعبية الجارفة، قد قوّت من عضد الدولة في مواجهة التغوّل الإسرائيلي، وأظهرت البلد الصغير كشوكة لا يمكن ازدرادها بسهولة، ووضعت نقطة في آخر سطر الممارسات الإسرائيلية المذلة على المعبر، الذي لم يُساءل فيه الاحتلال مرة واحدة عن ممارساته الفظة.
وإذا كانت هناك ارتدادات سلبية على صورة مجلس النواب، الذي رفع سقف المطالبات إلى ذروتها، وحاول استملاك السياسة الخارجية وإدارتها بحسب الأمزجة المحتدمة لأسباب معظمها داخلية صرفة، فإن من المرجح أن تتلاشى هذه الارتدادات بسرعة، كغيرها من المرات في تجارب سابقة، فيما ستبقى النتائج الأولية لهذه المجابهة السياسية مع العنجهية والصلف، وهي نتائج يمكن البناء عليها مستقبلاً، ماثلة بقوة في الأذهان الإسرائيلية التي لم تتحسب يوماً لمثل هذه الوقفة التي أسس لها مجلس النواب بنفسه.
وليس من حاجة للبحث بعدسة مكبرة عن نتائج أخرى إيجابية، ترتبت على هذه المحصلة الأولية لموقف شارك في إنتاجه كل المخاطبين بواقعة استشهاد القاضي الأردني الفلسطيني على الجسر؛ لعل في مقدمتها جلاء صورة الأردن كدولة ذات حائط يصعب القفز عليه برعونة، وتعزيز حضوره السياسي في إطار معادلة الصراع الذي لم يضع أوزاره، ناهيك عن بيان هذه الواقعة وتبيينها لحقيقة الهوية الوطنية الجامعة، المترفعة عن كل ما كان يعلو قشرتها الخارجية من مظاهر سلبية، سقطت كلها في اختبار دم شهيد الكرامة، عشية يوم الكرامة الخالد.