يعيد فلاديمير بوتين كتابة التاريخ. ليس تاريخ روسيا فقط بل تاريخ جيرانها وجغرافية دولهم أيضاً. بوتين يعتبر أن الزلزال الذي ضرب الاتحاد السوفياتي في آخر عقد الثمانينات من القرن الماضي كان خطأ تاريخياً. لكن بوتين يعرف انه لن يستطيع إعادة ذلك الاتحاد إلى ما كان عليه. والسبب أن المشروع الذي قام عليه الاتحاد السوفياتي، وهو وحدة القوى الاشتراكية وحكم الطبقات العاملة، بات كذبة لم يعد باستطاعته أن يبيعها لأحد، لا داخل روسيا ولا بين جيرانها. لقد انفضحت تلك الكذبة عندما انهار جدار برلين واكتشفت الشعوب التي كانت مقيمة خلف الجدار أن هناك عالماً أفضل يعيش ويأكل ويشرب ويستمتع بالحياة، بعيداً من النظام الشيوعي الذي كان يوزع وعد الرخاء الكاذب على أتباعه.
لهذا يلجأ بوتين اليوم إلى لعبة أخطر لإعادة لمّ الشمل، هي اللعب على العصبية القومية الروسية. وهذه مثل اللعب بالنار. لأن التلاعب بحدود الدول بعد إشعال مشاعر القوميات ينتهي في الغالب إلى أنهار من الدم، كما لا نزال نذكر من تلاعب أدولف هتلر بحدود الدول الأوروبية المجاورة لإعادة رسم الخريطة الألمانية. هذا ما يفعله بوتين في شبه جزيرة القرم من خلال تجييش الأكثرية الروسية هناك ضد مشاعر الانتماء لدولة أوكرانيا التي تتبعها شبه الجزيرة منذ عام 1954 عندما قرر نيكيتا خروتشوف «منحها» لأوكرانيا.
من هنا مخاوف الدول المجاورة التي تعيش فيها أقليات روسية، أو أقليات تتبع الديانة المسيحية الأرثوذكسية (وهذه عصبية أخرى يتاجر بها بوتين لم تكن المتاجرة بها ممكنة أيام الاتحاد السوفياتي). بين هذه الدول مولدوفا وليتوانيا وصولاً إلى جمهورية صربيا، التي دعا بوتين رئيس حكومتها خلال زيارة قام بها إلى موسكو في الشهر الماضي إلى وقف التفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على مساعدات، وطلب مساعدة روسيا بدل ذلك.
في أوكرانيا يعيد بوتين تصحيح «الخطأ» الذي يقول إن خروتشوف ارتكبه بحق الروس. يعتبر بوتين أن التخلي عن القرم من جانب خروتشوف كان عملاً «غير دستوري»، كما وصفه أمس أمام النواب الروس، ودعا إلى إعادة تصحيح هذا «الظلم التاريخي». وبصرف النظر عن الظروف التي رافقت قرار خروتشوف، يتجاهل بوتين أن أوكرانيا كانت في ذلك الوقت في حضن الاتحاد السوفياتي، وبالتالي فإن انتقال القرم إلى أوكرانيا كان مثل نقلها من الجيب الأيمن لسترة خروتشوف إلى جيبه الأيسر.
في تلاعبه بالحدود وتزويره التاريخ، لا يتردد فلاديمير بوتين في ممارسة الكذب المفضوح، الذي يذكّر بزمن صحيفة «إزفستيا» وإعلامها الدعائي، اذ تحت شعار «الحقيقة»، كما يشير اسمها، كانت هذه الصحيفة تمارس كل أنواع التزوير الإعلامي مستفيدة من قمع كل إعلام مشاكس، كما يفعل بوتين بالإعلام الروسي اليوم، فهو يتهم الغرب بخرق القانون الدولي في تعاطيه مع الأزمة الأوكرانية، في الوقت الذي يتجاهل أنه هو الذي يخرق هذا القانون بعدم التزامه بالاتفاق الذي وقعته روسيا (في زمن سلفه بوريس يلتسين) مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، والذي يقضي بالتزام الدول الثلاث بحماية وحدة أراضي أوكرانيا (بما فيها شبه جزيرة القرم) واستقلالها في مقابل تخليها الطوعي عن أسلحتها النووية.
إلى ذلك، يقارن بوتين بين تصويت أبناء القرم لمصلحة الانفصال عن أوكرانيا وتصويت إقليم كوسوفو للانفصال عن صربيا، متجاهلاً كذلك أن أهل كوسوفو كانوا يتعرضون للمذابح على يد حلفائه الصرب الذين ارتكبوا أبشع مجازر القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي لم يزعم أحد أن أهل القرم تعرضوا لأي اعتداء قبل أن يعمل بوتين على إذكاء عصبيتهم الدينية والقومية، لينتقم من حكومة أوكرانيا التي تجرأت على الخروج على أوامره