محاولة الإذلال والإهانة التي رفضتها نفس رائد زعيتر الأبية على جسر العودة، قبل أيام معدودة، فدفع حياته ثمناً لذوده عن كرامته الإنسانية، هي ذات المحاولة المنهجية المتواصلة في نطاق واسع، وعلى مدى عقود طويلة ومستمرة، ظلت فيها سلطات الاحتلال الإسرائيلي البغيض تقتبس، بنفسها، سياسة القهر والتمييز التي ابتدعتها حكومة البيض في جنوب أفريقيا، وطورتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بصورة شائنة.
وليس من شك في أن هذه التجربة المميتة التي مرّ بها القاضي الشهيد، الممتلئ بروح العدالة والشهامة، مرّ بها من دون قتل مماثل، ملايين الناس من أبناء جلدته على هذا المعبر، وغيره من معابر الاحتلال وحواجزه القائمة حول فلسطين وفي داخلها. الأمر الذي كرس سياسة القهر هذه، وجعلها بمثابة القاعدة الطبيعية النافذة، وسط ما يشبه التسليم بها، واعتبارها قدراً مقدراً، لشعب تحت نير حكم استعماري جائر.
صحيح أن حيوات كثيرة ذهبت، مرارا وتكرارا، بزخّة رصاص سريعة، على نحو ما صعدت به روح رائد إلى باريها؛ إلا أن الاغتيال بدمٍ كان بارداً طوال الوقت، جاء هذه المرة مختلفاً بدرجة فارقة، ومثيراً للحفيظة أكثر من كل السوابق الماضية، ليس فقط لأن الشهيد قاض محترم وشخصية مرموقة فقط، وإنما أيضاً لأنه ظهر أن للضحية ظهراً قويا، وأن هناك من يطالب بدمه، ويدعو إلى القصاص من القتلة، ربما لأول مرة.
وأحسب أن الغضب النبيل الذي اجتاح مختلف أوساط الرأي العام الأردني، على نحو أشد مما كانت عليه الحال إزاء مجازر مروعة تغص بها الذاكرة الوطنية، ناهيك عن الضغوط التي تتعرض لها الحكومة للرد على جريمة اغتيال أول شهيد لف بعلمين وطنيين، وعززت دماؤه وحدة الشعب بمختلف مكوناته، تشكل سابقة حميدة وغير مسبوقة، بل وتقدم فرصة سانحة لكسر القاعدة المعمول بها على المعابر الحدودية والحواجز العسكرية؛ وذلك بالبناء على ردة الفعل الأولية الاعتذارية الإسرائيلية النادرة، وتوظيفها لإرساء قواعد عبور كريمة ولائقة في المستقبل.
لقد كان تنامي مظاهر استسهال قتل الإنسان العربي، عند أدنى اعتراض على المعاملة الفظة؛ والاستهانة بكل تقرير اتهامي صادرة عن منظمات حقوقية؛ ناهيك عن الافتقار إلى أي ردود فعل احتجاجية جدية، هي السبب الرئيس وراء تكرار عمليات الاغتيال هذه، وازدراء حياة الإنسان الفلسطيني الذي ينظر إليه المدججون بالأحقاد التاريخية كمخلوق أقل من إنسان، فيعطون لأنفسهم حق إصدار قرارات الإعدام، ليس على الشبهة فحسب، وإنما على النية ايضاً.
لقد درجت إسرائيل على عدم الاكتراث بكل رد فعل فلسطيني على أي جريمة قتل ترتكبها على الحواجز أو على الأرصفة. وتمادت في تلفيق ما يحلو لها من ذرائع مفبركة للضحية البريئة، طالما أنها آمنة من سوء العاقبة. غير أنه عندما يمس الفعل الإسرائيلي مصلحة دولة ذات سيادة كالأردن، على نحو ما حدث في المسجد الاقصى بالأمس، أو يطال مواطناً أردنياً كما يحدث اليوم، فإن النتيجة يجب أن تكون مختلفة، على نحو ما تقضي به الأعراف والتقاليد المعمول بها بين الدول كافة.
إزاء ذلك كله، فإن عدم غض البصر عن جريمة اغتيال القاضي زعيتر، واعتبارها واقعة تخاطب الأردن، شعباً وحكومة، وتوظيفها لكبح جماح روح العنجهية الإسرائيلية المتغولة في ممارساتها الاحتلالية، هو أمر من شأنه أن يضع نقطة في آخر سطر علاقة غير سوية، صنعت سلاماً على الورق، وأنتجت مشاعر كراهية احتدمت اليوم أكثر من ذي قبل، مع كل هذه الاستفزازات المهينة لكل امرئ ذي كرامة، يشعر أن الكأس المريرة قد امتلأت مرارة، بل وفاضت عنها.
على أي حال، ينبغي بالضرورة ألا تمر هذه الجريمة النكراء مرور الكرام، وأن تدفع اسرائيل ثمناً سياسياً على اقترافها هذه الفعلة الهمجية الخسيسة، وأن تعي أن لحياة الإنسان في بلادنا قيمة حقيقية؛ وذلك عبر اتخاذ إجراءات عملية ملموسة تلبي بعضاً من المطالبات الشعبية. غير أنني أرى ألا يتم المقامرة بالرصيد الأردني دفعة واحدة، وأن تظل دروب الاشتباك السياسي مع إسرائيل مفتوحة، طالما أن البدائل غير متاحة، مع وجوب الحرص على ألا ينقلب الأمر إلى أزمة داخلية أردنية.