ليس في القاموس السياسي الحديث تعريف لمصطلح “الدويلة” غير الناجزة. ولا ينطوي هذا المفهوم المشتق من معنى التصغير والتهميش والمحدودية، على مضامين دقيقة متداولة، تحدد الشخصية القانونية لمثل هذا الكيان الاعتباري اللاشرعي لجماعة إثنية أو طائفية، تمكنت من فرض نفسها بقوة الأمر الواقع على مساحة رخوة من دولة ذات سيادة، وَهَن مركزها، وتشتت شملها، وتآكلت قوانينها، بفعل متغيرات داخلية وتأثيرات خارجية كثيرة.
مع ذلك، فإن الواقع السياسي الراهن في العالم العربي، أخذ يشهد في السنوات الأخيرة ولادات عسيرة لدويلات عديدة، راحت تملي نفسها بالقوة، وتراكم عناصر سيطرتها من دون توقف. إذ باتت تشكل اليوم حقيقة من حقائق الواقع القائم، ويُنظر إليها كجزء لا يتجزأ من معادلة توازن القوى الداخلية والإقليمية. فما إن تمكنت من تعزيز حضورها النافذ، حتى بدأت الدويلات في توجيه سياسات دولها حيناً، ومصادرة القرارات الرسمية فيها أحياناً أخرى.
والحق أن الأقليات الإثنية في العالم العربي لم تتمكن من مجاراة المجموعات الطائفية في الاستحواذ على السلاح، وإقامة دويلات معبرة عنها، على نحو ما نجحت فيه الطوائف والقبائل والمنظمات العقائدية التي برعت جميعها في استثمار المخاوف، وتوظيف الهواجس، وتفعيل النوازع الدينية، وتسديد فواتير الحسابات التاريخية، في سباق محموم على الفوز في معركة مفتوحة لإعادة بناء الصورة العربية الاسلامية.
بكلام آخر، فإن هذه الحرب التي تستحق تسمية الفتنة بلا مواربة، تجري فصولها المؤلمة، وتتفاقم تداعياتها باطراد، تحت رداء سياسي من حيث الشكل الخارجي، وتدور رحاها في نطاق هوامش وطنية ملفقة، فيما يستعر أوارها في جوهر الأمر وظاهره بين السنّة والشيعة؛ أي بين هذين الجناحين الكبيرين اللذين اشتد عود أحدهما بفعل قوة إسناد إيرانية، فيما امتلأ الجناح الآخر بالريش تدريجياً، واكتسب قدرة موازية على التحليق مؤخراً.
وهكذا، فإنه يمكن القول إننا الآن في زمن الدويلات الطائفية المسلحة حتى الأسنان، وأنه بات لدى الطرفين المتقاتلين تحت رايات طائفية غير معلنة، قوة إرادة أشد فتكاً وأطول باعا مما لدى الدول، حتى وإن كانت الترسانتان أصغر عدة وعتاداً، وكانت الكتائب والأفواج المفعمة بروح الجهاد والاستشهاد أقل عدداً من الجيوش الهاجعة في ثكناتها. فالعبرة هنا للفاعلية الذاتية، والدافعية المشوبة بنزعة التطرف والعصبية المذهبية.
وإذا كان العراق يمثل المبتدأ من الجملة الاسمية لهذا المشهد من الحرب الطائفية المستعرة، حيث الوقائع الجارية تنطق الاسم بالألف واللام، فإن ما يجري في سورية هو صورة منقحة قليلاً عن مثيلتها العراقية، وكذلك الحال في اليمن من دون نقصان أو زيادة. ولا بأس من التذكير بواقع دويلة حزب الله، ذات اليد التي تعلو على يد الدولة الرسمية. وفتش كما تشاء، من دون مجهر، كي ترى الأصابع الإيرانية الغليظة في طول العالم العربي وعرضه، من البصرة إلى صعدة، مروراً ببيروت وغزة.
وعليه، فإن هذه الدويلات ذات الهوية الطائفية الخالصة، تبدو اليوم أشد حضوراً وأكثر فاعلية من الدول ذاتها، وأن هذه التكوينات السياسية غير المعترف بها رسمياً، هي الأمضى سلاحاً والأعمق قدرة على تكوين المشهد الراهن، وذلك بعد أن تراكمت لدى كل منها على حدة، عناصر قوة غير مسبوقة، ومدداً بشرياً مسلحاً، لم تحرز مثيلاً له هذه الجماعات في أي مرحلة سابقة على مرّ العصور الإسلامية الطويلة الماضية. وهو ما يعني أنها باتت قوى متعادلة البأس، وغير قابلة للاحتواء في المدى المنظور.
خلاصة القول، إن هذه الدويلات، التي باتت الآن قوة يُحسب حسابها، بدأت ترضع من حليب أمها الدولة إلى أن بلغت سن الفطام. فما إن اشتد عودها، حتى أخذت في التهام مرضعتها، وشرعت في الحلول محلها، بمربعات أمنية ومناطق سيطرة مغلقة، ناهيك عن العلم والنشيد والمحاكم والسجون الخاصة، بينما الدولة المغلوبة على أمرها تتحلل رويداً رويداً، وتنتظر مصيرها بصمت، إلى أن تحين لحظة تشكيل المشهد الجيوسياسي على خلفية عريضة من الاصطفافات المذهبية الواضحة تماما.
عيسى الشعيبي/زمن تهافت الدولة وعصر صعود الدويلة
15
المقالة السابقة