الآن بوسعنا أن نقول إن الإرهاب وصل إلى القاهرة، وإن ما كان يعد جرائم إرهابية وقعت في العاصمة خلال الأشهر الماضية يكاد يتحول إلى ظاهرة توحي بأن الإرهاب الذي كان مقصورا على سيناء، بصدد التمدد باتجاه بقية المحافظات المصرية، وبعد أن طرق أبواب المحافظات القريبة من سيناء (الإسماعيلية والشرقية وكفر الشيخ مثلا) فإنه وصل إلى بني سويف وتعددت أصداؤه في القاهرة. فضرب قلب المدينة بالتفجير الذي استهدف مديرية الأمن، ثم ذلك التفجير الذي تم في حي الدقي، إضافة إلى تفجيرات أخرى خائبة تمت في بعض الأحياء الأخرى، وكلها جرائم سقط فيها أعداد من المواطنين البسطاء والجنود الأبرياء الذين كانوا يؤدون واجبهم. وإزاء تنامي مؤشرات الإرهاب على ذلك النحو، فإن المشهد يثير ملاحظات عدة منها ما يلي:
* إن طبيعة الجرائم التي وقعت تثير علامة استفهام كبيرة حول هوية الفاعلين، لأن بعضها عمليات تفجير ساذجة تشير إلى أن الذين أقدموا عليها هم من الهواة الخائبين. في حين أن البعض الآخر يدل على أن ثمة خبرة وشيئا من الاحتراف وراءها، وبوسع المراقب أن يقرر أن الجرائم الأخيرة يمكن نسبتها إلى من يطلقون على أنفسهم أنصار بيت المقدس المتمركزين في سيناء والمتحصنين بالجبال والكهوف. وربما لبعضهم خبرات قتالية في أماكن أخرى. أما عمليات التفجير التي وصفتها بأنها ساذجة فإن الفاعلين فيها ينتمون إلى مجموعات بحاجة إلى تحديد.
* إنني أحذر من التسرع في إطلاق الأحكام والتعويل على وسائل الإعلام في تحديد الفاعلين ومحاكمتهم لسبب جوهري هو أن تلك مغامرة قد تنتهي بإفلات المتهمين الحقيقيين من العقاب ناهيك عن أنها قد تؤدي إلى تشويه وظلم الأبرياء ولذلك تمنيت أن يتريث الجميع حتى تتوصل التحقيقات إلى الخيوط التي توصل إلى الفاعلين، الأمر الذي يمكننا من أن نشير إليهم بوضوح ويسوغ لنا أن نعرف على من نطلق السهام ونصب اللعنات.
* أحذر أيضاً من ترك الأمر كله للأجهزة الأمنية الأمر الذي يحملها بما يفوق طاقتها ويقحمها في مجالات يجب أن ينهض بها آخرون. ذلك أن الإرهاب في بعض أوجهه ليس مشكلة أمنية فحسب، ولكنه مشكلة سياسية ومجتمعية أيضا. ورغم أن لدىَّ الكثير الذي يمكن أن أقوله في انتقاد سلوك وسياسات الأجهزة الأمنية، فإنني أزعم أنها ينبغي ألا تتحمل وحدها عبء مواجهة الإرهاب.. بكلام آخر فإن الحل الأمني محكوم عليه بالفشل إذا حمل بمسؤولية مواجهة أي مشكلة سياسية، وما لم تقم السياسة بدورها في التواصل والتفاهم الذي يتجاوز الإجراءات والفرمانات، فإن المشكلة لابد أن تطول ولا غرابة في أن يدفع المجتمع ثمنا باهظا جراء ذلك.
في هذا الصدد فإنه لا يكفى أن تنظم وزارة الأوقاف حملات للتوعية ومواجهة الفكر التكفيري، حتى أزعم أن ذلك تفكير ساذج يحول جهاز الدعوة في الأوقاف إلى أحد فروع الأمن الوطني، ليس فقط لأن الفكر التكفيري يعد ظاهرة في سيناء في حين أنه استثناء في بقية المحافظات المصرية وليس فقط لأن مواجهة ذلك الفكر تتم بإطلاق مجموعة موظفي الأوقاف الذين يمتدحون الاعتدال والتبشيرية، ولكن أيضاً لأن المشكلة لها جذورها الاجتماعية والاقتصادية التي لا تحل بمواعظ القوافل العابرة.
* أزعم أن العمليات النوعية التي نمت كشفت عن قصور معلوماتي واستخباري يحتاج إلى انتباه وعلاج.. أتحدث عن محاولة اغتيال وزير الداخلية وقتل الضابط القيادي في الأمن الوطني إلى تفجير مديرية أمن القاهرة مرورا بتفجير مديرية أمن الدقهلية ومقر المخابرات في الإسماعيلية. ذلك أن تلك العمليات تطلبت بذل جهد كبير في الرصد وجمع المعلومات وتوفير المتطلبات اللازمة لتحقيق الهدف. ومن المستغرب أن يتم ذلك كله دون أن يثير انتباه الأجهزة الأمنية بما يحول دون إجهاض العمليات قبل وقوعها.
* إننى أتفهم غضب الإخوان واستياءهم وأقدر حيرتهم إزاء انسداد الأفق السياسي أمامهم.
وأشارك آخرين في أن اعتبارهم جماعة إرهابية كان قرارا متعجلا الضرر فيه أكثر من النفع. كما أنني أرحب باعتذارهم وأقدر استنكارهم للعمليات الإرهابية ودعوتهم إلى تجنب العنف. مع ذلك فإنني أدعوهم إلى إعادة النظر في تظاهراتهم في الشوارع والميادين مع ما يستصحبه ذلك من صدامات ويسفر عنه من ضحايا من جانبهم أو من رجال الأمن. علما بأن تلك التظاهرات وسعت من دائرة الاستياء الشعبي إزاءهم وسوغت الإشارة إلى مسؤوليتهم عن أي عمل إرهابي يقع في أي مكان بمصر. وهو ما لا يجدي معه نفيهم أو استنكارهم. صحيح أنهم ليسوا وحدهم وأن معهم أطرافا أخرى في التحالف المقام، وصحيح أيضاً أن الذين يخرجون في المظاهرات ليسوا كلهم من أنصار الإخوان أو التحالف وأن آخرين لهم أسبابهم الخاصة التي تدفعهم إلى التظاهر إلا أن وجود الإخوان فيها ودعوتهم إليها يضعهم في الواجهة وييسر توجيه أصابع الاتهام إليهم.. وليس لديَّ بديل جاهز يمكن اللجوء إليه في هذه الحالة، لكن ما أعرفه أن عليهم أن يتجنبوا التظاهر في الشوارع في الوقت الراهن وأن يبحثوا عن وسيلة أخرى للاحتجاج السلمي تبعد عنهم شبهة الاتهام وتحول دون زيادة الرفض الشعبي لهم في حين أن أداءهم الراهن يعفي السلطة من النهوض بما عليها أن تقوم به في خدمة المجتمع ويوفر لها غطاء يبرر تقاعسها أو عجزها. إن الشجاعة والحكمة هي أمضى أسلحتنا في مواجهة الإرهاب.
حمى الله مصر وحفظ أهلها من كل سوء..