المتتبع للسياسات الإستراتيجية الإسرائيلية منذ إنشاء إسرائيل وحتى الآن يلحظ وبلا أدنى شك أنها: تعتمد فرض الوقائع الجديدة على الأرض، والترويج لها باعتبارها مرتبطة بالأمن الإستراتيجي الإسرائيلي أولاً وأخيراً. إسرائيل تمارس من أجل ذلك، النفسٍ الطويل، حيث تبدو الوقائع في حينها غريبة مع استحالة القبول الفلسطيني والعربي بها! كانت الحقيقة الأولى التي فرضتها إسرائيل على من هم أعداؤها: فرض الدولة الإسرائيلية نفسها كوجود رسمي في المنطقة. كان مستحيلاً على الفلسطينيين والعرب الإقرار بالحقيقة بعد ولادة إسرائيل مباشرة كدولة. امتد ذلك إلى أواسط الستينيات. في عام 1967 جاءت الظروف المواتية لها لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي عربية أخرى. انطلقت الثورة الفلسطينية وكانت ترفع شعار: تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ما لبثت فيما بعد وبالجهة الفلسطينية المتنفذة في الثورة ومنظمة التحرير، أن جرى التركيز على تحرير أراضي عام 1967 في ظل خفوت الهدف بتحرير كامل فلسطين. تطور الأمر إلى الاستعداد بالاعتراف بوجود دولة إسرائيل مقابل مناطق 67 لإقامة دولة فلسطينية، عليها والاكتفاء بالحق الفلسطيني فقط على هذه المنطقة من كامل الأرض. تطور الأمر في سلّم التنازلات إلى القبول الرسمي الفلسطيني والعربي بإمكانية إجراء تعديلات على هذه الحدود وما يسمى بتبادل طفيف للأراضي بين الطرفين، وهكذا دواليك.
خلال سنوات الاحتلال للضفة الغربية صنعت إسرائيل حقائقها: ضم القدس في نوفمبر عام 1967 في وقت مبكر من الاحتلال، وبناء تجمعاتها الاستيطانية الكبيرة في الضفة الغربية.هذه المرحلة، فإن إسرائيل تطرح مبدأ التواجد العسكري والاستيطاني الإسرائيلي في منطقة غور الأردن.فلسطينياً رسمياً وعربياً تبدو المواقف رافضة بالقطع لهذا التواجد. ما نخشاه وأمام حقائق إسرائيلية جديدة قادمة يجري فرضها على أرض الواقع. أن تجعل الموافقة الرسمية الفلسطينية والعربية على تواجد قوات إسرائيل في منطقة غور الأردن واعتبار ذلك مكسباً. لا نقول هذا الأمر من وحي الخيال وإنما من حقيقة مواقف يجري اتخاذها على الأرض. فالمروجون للتسويات مع إسرائيل ينطلقون من خلفية: لنلحق بما تبقى من أراضي الضفة الغربية قبل ضياع الجزء المتبقي منها.
كما أنهم يلومون الرئيس الراحل عرفات على رفضه لمقترحات باراك وكلينتون في كمب ديفيد 2000. وقد قبلت إسرائيل حينها بالإشراف الفلسطيني على الأماكن الدينية وبعض أحياء القدس الشرقية. أما بالنسبة لحق العودة فقد جرى طرح الحل: بعودة بضعة آلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى مناطق 48 تحت عنوان “لم شمل العائلات” مقابل تنازل الفلسطينيين عن حق العودة. كما جرت المناداة بتعويض اللاجئين عن ديارهم. هذا الحل يبدو من وجهة نظر المروجين للتسوية بأنه كان مكسباً، وهكذا دواليك.
الرسائل الإسرائيلية ظلّت تتوالى واحدةً بعد أخرى. وكما قلنا: منذ إنشاء إسرائيل وحتى اللحظة. كان أهم تلك الرسائل:وجود الدولة الإسرائيلية ذاتها. احتلال عام 1967 ضم القدس، المستوطنات. التعديلات على حدود عام 1967 التحايل على حق العودة، وأخرى كثيرة غيرها. من بين الرسائل الإسرائيلية الجديدة ثلاث. الأولى ما نسمعه من اقتراح إسرائيلي بتبادل أراض مع الفلسطينيين: ضم المستوطنات إلى إسرائيل، مقابل ضم المثلث إلى الأراضي الفلسطينية. هذه الخطوة تضمن لإسرائيل: التخلص من أكثر من 300 ألف فلسطيني يشكلون كثافة سكانية عربية في هذه المنطقة. ويشكلون عبئاً كبيراً عليها وعلى الشعار الذي تطرحه “يهودية دولتها”. انطلقت مقدمات هذه الرسالة في مؤتمر هرتسيليا الاستراتيجي الرابع عام 2004. هذه المؤتمرات يجري عقدها سنوياً في إسرائيل منذ عام 2000 تحت شعار “خدمة المناعة والأمن القومي الاستراتيجي الإسرائيلي”، يحضرها إستراتيجيون إسرائيليون، وأجانب (خاصة من أصدقاء إسرائيل) وساسة، وقادة عسكريون وغيرهم. منذ انعقادها وحتى الآن تُعتبر هذه المؤتمرات وما تتخذه من قرارات: غاية في الأهمية، ويمكن اعتبار قراراتها: الخلفية الإستراتيجية لكافة السياسات الإسرائيلية الممارسة. في المؤتمر الرابع فيها شكّل البعد الديموغرافي العربي في مناطق 48 واحداً من أكبر الأخطار التي تتهدد المستقبل الأمني الإسرائيلي وشعار “يهودية دولة إسرائيل”، ولذلك جرى اقتراح بضم منطقة المثلث إلى مناطق السلطة الفلسطينية لكسر رقم متوقع في عام 2050 من حيث وصول السكان العرب في منطقة 48 إلى ما يوازي السكان اليهود. هذه الرسالة لها دلالاتها المستقبلية والتي أهمها: التخلص من عرب 48 بكافة الوسائل والطرق: إما (ومثلما يقول المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه) من خلال خلق واقع سياسي اقتصادي اجتماعي صعب جداً للعرب (وبخاصة الشباب) بحيث يتعذر على جزء كبيرٍ منهم البقاء في مناطقهم، ويجعل من ذلك مستحيلاً، أو من خلال إجراء تهجيري بحقهم (ترانسفير) وهذا ليس صعباً على إسرائيل.عملياً بدأت إسرائيل في الأعوام الأخيرة في تنفيذ هذه السياسات من خلال: تكثيف القرارات العنصرية التي تضّيق على سكان إسرائيل العرب في مختلف المناحي، والتي تسنها الكنيست بين الفترة والأخرى، ولذلك تصاعدت مثل هذه القرارات التي سنتها الكنيست في السنتين الأخيرتين.
الرسالة الإسرائيلية الثانية:هي التواجد العسكري الإسرائيلي في غور الأردن. هذه الرسالة بدأت في أغسطس عام 1967 حينما اقترحها ييغال آلون (وكان حينها نائباً لرئيس الوزارء) الذي يسمى بــ “صاحب النظرية الأمنية الإسرائيلية”. لقد بينّ الأخير الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الغور. آلون يعتبر الأول في إسرائيل الذي اقترح “حكماً ذاتياً” للفلسطينيين وكان ذلك في عام 1967. لاحظوا أن كافة المشاريع التسووية الإسرائيلية منذ تلك اللحظة وحتى الآن تتمحور حول الحكم الذاتي فقط، كسقف أعلى (حتى لو سمى الفلسطينيون حكمهم إمبراطورية!).
الرسالة الإسرائيلية الثالثة هي “يهودية دولة إسرائيل”. لقد اشترط نتنياهو للتسوية سواء مع الفلسطينيين أو مع العرب قبول الطرفين “ليهودية إسرائيل”. هذه أيضاً رسمت أصولها في مؤتمرات هرتسيليا. لذلك رفضت إسرائيل ما يسمى بــ”مبادرة السلام العربية” واشترطت أن يكون “السلام مقابل السلام” وليس معادلة “السلام مقابل الأرض”. بالمعنى الفعلي: الائتلاف الحكومي الحالي في إسرائيل يرفض رفضاً قاطعاً إقامة دولة فلسطينية. هذا لا نقوله نحن وإنما وزراء إسرائيليون عديدون. ولو اعترف الفلسطينيون بكافة الشروط الإسرائيلية لتفتق الذهن الإسرائيلي عن شروط جديدة. تعرقل كل إمكانية لقيام دولة فلسطينية ما تريده إسرائيل هو الحكم الذاتي للفلسطينيين ليس إلاّ، فالدولة الفلسطينية تعتبرها إسرائيل مسمارا أخيرا في نعشها.
المشكلة: أن المروجين للتسوية سواء كانوا فلسطينيين أو عرباً، إماّ لا يدركون حقيقة إسرائيل، وإماّ يعملون عكس ما تقتضيه المواجهة والمجابهة للمشروع الإسرائيلي الصهيوني برمته في المنطقة، في كلتا الحالتين فإن هؤلاء يدفنون رؤوسهم في الرمال مثل النعامة ويقولون ويتذرعون بجملة: لا نرى!
د.فايز رشيد/رسائل إسرائيلية يتوجب فهم دلالاتها
16
المقالة السابقة