عاد الأسير سامر العيساوي إلى القدس. عاد بشروطه بعد أن تكسرت على صلابة إرادته الصلدة كافة اشتراطات عدوه التي رفضها. كانت إرادته الأسطورية، التي أعلنت عنها أشهر تسعة من الإضراب غير المسبوق تاريخيًّا عن الطعام قمينة بأن توصف بأنها قد قدت من صلابة جبال قدسه العائد إليها. عاد فاستقبلته جماهيرها رغم أنف محتليها. لم ترعب عيسويتها جحافل محاصريها، ولم تثنِ المقدسيين عن تأدية واجب استقبال بطلهم العائد إقفال مداخلها، ولا انتشار الحواجز أسوارًا مضافةً حول كامل المدينة الأسيرة.
اختصر سامر العيساوي المقدسي الفلسطيني العربي سفر أسطورته بعبارة مناضلة وبسيطة: “عرض عليَّ أن أتخلى عن شعبي وكرامتي … وهو ما لم أوافق عليه”. أما لماذا لم يوافق؟ فالجواب أتى بنفس النضالية والبساطة ذاتها: “أريد أن أحافظ على هذا الجيل ليحافظ على فلسطين”…
… عاد سامر إلى القدس بشروطه لا بشروط العدو … لم يفاوضهم ولم يساومهم ولم يهادنهم، وأنذرهم العائد سلفًا: “لن نهدأ حتى نطلق سراح أسرانا، ولن تتحقق فرحتنا إلا بتحرير فلسطين”، وليتحداهم: “أشعر اليوم بالنصر” عليكم … أما لمن يتحدثون عن بطولته فيذكِّرهم بأنه “كل الشعب الفلسطيني بطل”، لأنه شعب يقاوم ولا يساوم و”مصرٌّ على حقه بأرضه”… ولأنه ينتمي لمثل هذا الشعب فهل من غرابة أنه يعود إلى عائلة مناضلة لا تختلف عن غالب سواها من أسره وعوائله، فهو شقيق لشهيد ولآخر قضى 25 عامًا متفرقةً في معتقلات الغزاة المحتلين، ولشقيقة أمضت فيها ما قارب العام، ووالدة يكفي أنها لم تقرأ في عودته إليها إلا أنها: “مثال لشعبنا بأن الإرادة والعزيمة تصنعان المعجزات”… أما والده فقال ما هو لسان حال العيساوية والقدس وشعب بكامله ومعه بسطاء أمتة من مشارقها إلى مغاربها، قال ما لم يسمعه ولا يفهمه من على مقربة منه يفاوضون ويساومون ليفني تحت عباءة كيري: “فرحتنا ستكتمل حين تتحرر فلسطين” …
… يعود سامر للقدس بشروطه لا بشروط الغزاة، لتستقبل العيساوية ابنها العائد متحديةً إنذارات المحتلين ووعيدهم، لم ترهبها قواتهم أو تثنها حواجزهم، وعلى مقربة في المدينة المحتلة تحجز السفارة الأميركية في أحد الفنادق الكبرى خمسين غرفة ليشغلها جزء من طواقم الخبراء المرافقة لكيري، والذي يقال إن تعدادها يصل إلى الـ130 مختصًّا… كيري العائد لفلسطين المحتلة آخر الشهر الأول من عامنا الجديد، أو بداية ما يليه، ليفرض اتفاقًا أوسلويًّا ثانيًا على أوسلويين لم يتمسكوا يومًا بشروطهم، وكان نهجهم المستدام هو الاستجابات المتتالية للاشتراطات التي تفرض عليهم. عاد ليفرض اتفاقه الذي يقول ما سُرب منه أنه، أما وقد بات مقتنعًا بأنه “لا يمكن التوصل إلى اتفاق سلام مرة واحدة”، فلا بد إذن من اجتراع “خطة وسطية ترضي الطرفين”، لا تتطرق إلى “القضايا الحساسة بالتفصيل، لكنها تشير إلى أسس الحل”، أو ما يعني الكلام العام، أو الذي لا يعني شيئًا، عن دولة فلسطينية على حدود67، وأخرى “يهودية”، أما أولوية أمن الكيان الصهيوني فيكفلها “وجود أميركي مكثَّف في الأغوار”. والمهم هو أن ما يسرَّب يقول إن كيري كان قد ناقش هذا مع رئيس سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود في رام الله وإن هذا “لم يعترض” … وإن صح هذه الذي سُرِّب فماذا يعني؟!
إنه لو صح فلا يعني سوى أن الأوسلويين، الذين ليسوا في وارد سماع ما قالته العيسوية وهي تستقبل ابنها المتمسك بشروطه تمسُّكه بفلسطينه، قد تخلوا، كسالف عهدهم، أو هم بصدد التخلي، عن آخر شروطهم ليلحقوها بما سبق وإن دأبوا على التخلي عنه، فقبول “اتفاق إطار”، أو ما يعني تمديدًا أو تعويمًا لزمن المفاوضات، أو ما يجعله مفتوحًا وفق الطلب والمشتهى الصهيوني، يعني تخليهم عن مطلبهم بما يدعونها، وفق منطقهم الأوسلوي “قضايا الحل النهائي”، لصالح ذات الحل الذي ينادي به ليبرمان ويحلم به غلاة الصهاينة، أي “الحل المؤقت”، كما وأن الدولة على حدود 67، وفق لغة اتفاق إطار كيري المزمع لا تعني حدود 67 التي تخلو عنها منذ زمن لصالح “تبادل أراض” متفق عليها … وماذا عن القدس التي هوِّدت، وحق العودة الذي تجاوزوه منذ أيام مبادرة قمة بيروت؟! كما ويعني أنهم لم يسمعوا بالغارات الدموية واصطياد الأطفال في غزة، تمامًا كما ظلوا يتجاهلون سماع أزيز البلدوزرات التهويدية الصاخب وهي تهدم بيوت الفلسطينيين وتوسِّع المستعمرات وتسمَّنها من حولهم، أو هذه التي يشكل إطار كيري المزمع لها مهلًا تفاوضية مرغوبة تتيح لأزيزها زمنًا كافيًا للإجهاز على ما تبقى من أرض فلسطينية لم تهوَّد أو تطالها جنازيرها بعد.
… عاد سامر العيساوي إلى العيسوية، عاد المقدسي إلى القدس، لكن بشروطه لا بشروط الغزاة المحتلين، لم يتخل سامر عن شعبة وعن كرامته، أو ما سيتخلى عنه الأوسلويين المفاوضين بقبولهم بشروط العدو المغلَّفة بسلوفان اتفاق إطار كيري التصفوي … عاد سامر مناضلًا إلى مدينته، وهم يعودون إلى سالفهم نهجهم التفريطي الذي جربوه لعشرين حولًا كارثيًّا ولم يتعظوا.
عبداللطيف مهنا كاتب فلسطيني