لو قرأنا الأسباب الحقيقية وراء اندلاع نيران الغضب العربي خلال سنة 2011 وشبوب الحرائق هنا وهناك ضد الأنظمة القديمة القائمة وضد تكلس المجتمعات المدنية وضد تصلب شرايين الأجيال الصاعدة لو تأملنا أعماق ما وقع من تغييرات لم تكن موفقة ومن أحلام أجهضت لاكتشفنا أن أصل الداء العربي في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن إنما يكمن في تعليم فاشل وتربية خاطئة ومؤسسات تعليمية عقيمة وبالطبع إلى جانب فساد الأنظمة السياسية بلا شك حيث انفجرت غضبات الشباب العاطل المهمش بعد سنوات قضاها على مقاعد الدراسة من الجد والكد وقد باع الوالدن ما يعز عليهما لكي يتخرج الابن وتتخرج البنت ويبتسم لهما الحظ بعمل شريف يليق بالشهادات المتحصل عليها. فإذا بالخريج والخريجة من الجامعات يجدان نفسيهما على قارعة طريق الحياة ولا أمل أو بصيص أمل بعمل أو وظيفة وتمضي السنوات وتأكل كراسي المقاهي حياة الشاب كما تأكل غرف المنزل وأرصفة الشوارع حياة الشابة وتنفتح أمامهما أبواب أخرى فإما الهجرة السرية وإما الإنحراف وإما الصبر على عمل لا يتلاءم مع الكفاءة والشهادات وبالطبع في كل الحالات اليأس من المجتمع الجائر ثم الثورة عليه أملا في حصول المعجزة مع نظام بديل رغم أنه غير مأمون.
ونعلم جميعا ما انحرفت إليه جميع الانتفاضات من خيبات أمل الشباب بل و من تعميق الهوة بينهم و بين مجتمعات بلا دولة وبلا رؤية وطنية توافقية ترفع النخبة فوق الأحزاب والقبائل وما ألت إليه بعض بلداننا من انتشار الإرهاب فضاعت أزاهر ما خلناه ربيعا عربيا في زحمة الأشواك فتساءلت جماهير العرب أين الوعد الحق وهل لليوم الكالح غد مشرق. ولم أشهد بعد تلك الانكسارات تفكيرا جديا وموضوعيا في أسباب هزيمة العقل العربي أي الإشارة الصريحة لبرامج التربية والتعليم لأنها هي التي هندست لنا الخيبات وصنعت الأزمات فالشباب الذي خرج للشوارع بصفة تلقائية إنما هب لينادي بالشغل والكرامة والحرية ولكن أساسا بالشغل الذي هو الضامن للكرامة وللحرية وبما أنني بحكم مسيرتي العسيرة في الحياة بدأت حياتي المهنية مدرسا في المدارس الإبتدائية الريفية حين انقطعت عن مواصلة تعليمي ثم كنت مدرسا مؤقتا في بعض المعاهد الثانوية ثم انتهيت أستاذا في الجامعة إلى أن أشرفت على رسائل دكتوراه وانتقلت بي تقلبات الدهر من تونس العربية الإفريقية إلى فرنسا المسيحية الأوروبية إلى قطر العربية المسلمة الخليجية إلى كندا الأميركية الشمالية (ولو عن بعد وضمن التعليم الإلكتروني) فكتب الله لي أن أعايش تجارب الأمم في صناعة الأجيال وهندسة التوازن الاجتماعي الذي لا يكون إلا نتاج تعليم ناجح موفق وتأملت في إشكالية التربية و تجارب الملاءمة بين مخرجات التعليم و مدخلات سوق الشغل و تعمقت في تحليل النماذج الناجحة في بلدان مختلفة الأعراق والأديان والثقافات لاتبين مواقع التميز وتسخير مؤسسات التربية من أجل ضمان التقدم الاقتصادي وتلافي الخلل الاجتماعي وتوفير الحظوظ المتكافئة لجميع الشباب دون تمييز وكل ذلك في كنف الأمن المدني وتواصل حلقات الأجيال و تحقيق نسب عالية من مؤشرات التنمية البشرية والمعرفية والثقافية.
ومن بين النماذج التي أعتبرها جديرة بالمتابعة والاستلهام بالنسبة لنا نحن العرب نموذج سنغافورة ذات الثقافة البوذية والهندوسية والبراهمانية والكنفوشية والمسيحية والطاوية وبعض الهنود المسلمين فتجد المعابد لجميع هذه الأديان والمعتقدات لكن اللغة الأنجليزية وهي اللغة الرسمية والأكثر تداولا تجمع كل الملل والنحل إلى جانب مركز التكنولوجيا الخلاقة (كرياتيف تكنولوجي) وسكان سنغافورة الثلاثة ملايين من أصول صينية وهندية وأوروبية. كل هذه الفسيفساء جعلت من الشعب السنغافوري وحدة حقيقية صماء بفضل إعلاء الشأن الوطني العام فوق اعتبارات العرق والمعتقد والسياسة فكان التعليم هو الروح الجامعة لمواطنيها. والنموذج الثاني هو الماليزي تلك البلاد ذات الأغلبية الساحقة من المسلمين وذات ال28 مليون ساكنا وهي تحتل المرتبة الثالثة في القارة الآسيوية من حيث حيوية اقتصادها والمرتبة الثالثة والعشرين عالميا بمعدل نمو سنوي لم ينزل دون الـ6,5 طوال العقدين الأخيرين وأصبحت ماليزيا كعبة القاصدين للتجارة الدولية والسياحة الطبية وتوفر جامعات راقية في شتى مجالات العلوم والتكنولوجيا. أما النماذج الأخرى فهي من بلدان أوروبا الشمالية الاسكندنافية مثل السويد والنرويج والدانمارك وهي البلدان الأقل نسبة عاطلين من مجموع السكان (النسبة تتراوح في هذه البلدان الثلاث من 2,5% إلى 4,5 %مقابل 12% في فرنسا و 19% في أسبانيا و اليونان إلى أخر قائمة البلدان الأوروبية المصنعة و لم تحد عن هذه النسب العالية من البطالة سوى ألمانيا لأسباب عديدة).
وإذا اتفقنا على أن بطالة الشباب العربي هي بيت الداء في المجتمعات العربية وهي التي كانت القشة التي قسمت ظهر بعيرنا العربي فالمتهم الرئيسي لدينا هو التعليم وخياراته الفاسدة منذ استقلال شعوبنا عن الاستعمارثم إذا اتفقنا على أن التطرف الديني والعلماني هو الذي فرخ الإرهاب فالمتهم الأول أيضا هو التعليم. أما الحلول فهي التي استلهمها من تجارب البلدان التي ذكرتها والتي مهما كانت الاختلافات بينها فقد أسست تعليمها على ما يسمى (المدرسة المفتوحة أوبن سكول) أي أن المدرسة لم تعد مؤسسة مركزية واحدة موحدة البرامج تسقط عليها برامجها التربوية من فوق بل تحولت إلى مؤسسة محلية يتكون مجلس إدارتها من أرباب الصناعة والمزارعين من القرية أو المدينة ذاتها التي فيها المدرسة إلى جانب برنامج وطني مشترك لكن محدود ينمي في الأجيال شعور الانتماء إلى وطن واحد. فالمدرسة المفتوحة على محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المحلي وبيئتها الطبيعية هي التي تصنع جيلا لا يغادر قريته ولا مدينته بل ينشأ على معرفتها و محبتها والرغبة في العيش فيها و بالتفاعل اليومي بين المدرسة والحياة الاقتصادية من حولها لا يتعب الخريج في إيجاد موطن شغل. أما المركزية السخيفة البالية في مؤسساتنا التعليمية العربية فإنها تحفر الخنادق بين الإنسان وأرضه وتدفعه للهجرة و تباعد ما بينه وبين الكرامة والشغل والحرية. فلنعد النظر بعمق وجرأة في مصنع أجيالنا قبل أن يهب الإعصار.
د.أحمد القديدي* كاتب وسياسي تونسي