روسيا عازمة على انعقاد مؤتمر «جنيف 2» المعني بالأزمة السورية خلال تشرين الثاني (نوفمبر) إن وافقت المملكة العربية السعودية على المشاركة فيه أو رفضت، وموسكو تعتقد أن إيران بالتأكيد ستحضر المؤتمر إن حضره العرب أو غابوا عنه بغض النظر عن أن سورية دولة عربية. فروسيا تصر على انعقاد جنيف – 2 في موعده، أي الموعد الذي قررته قبل نهاية هذا الشهر لأنها واثقة أن المعارضة السورية لن تتمكن من لملمة نفسها للتوجه بوفد موحد إلى المؤتمر ضمن هذه الفترة الوجيزة. تصر على الموعد لأنها مرتاحة إلى ارتياح الرئيس السوري بشار الأسد إلى وضعه في أعقاب الاتفاق الدولي على قرار مجلس الأمن لتدمير ترسانته من الأسلحة الكيماوية واتخاذه شريكاً ضرورياً لتنفيذ التدمير. موسكو لا تريد أن تخسر «زخم» الحدث السوري المتمثل بضعف الإدارة الأميركية واستعدادها لالتقاط أية فرصة تعفيها من الاستحقاق، عسكرياً أو سياسياً. إنها عازمة على انعقاد جنيف – 2 لأنها واثقة من فشله. لذلك تصر على موعده كي تبرر مرحلة جديدة من الأزمة السورية عنوانها أن لا لاعب جدياً آخر في مستقبل سورية سوى النظام الحاكم في دمشق لأن البديل هو إما «جبهة النصرة» وأمثالها أو امتناع المعارضة السورية عن الانخراط في البحث عن حل سياسي لمستقبل سورية.
لهذه الأسباب، يجب على وزراء الخارجية العرب المجتمعين في القاهرة يوم الأحد المقبل أن يتخذوا قراراً يفاجئ الرهان الروسي على إفشال جنيف – 2. عليهم أن يرسموا استراتيجية واعية بعيدة عن الاعتباطية وعن أنماط الوقوع في فخ الرد أو الاستفزاز. هذه مرحلة تتطلب تجرع «كأس السم» بدلاً من المزايدة على الذات وتنفيذ استراتيجية الآخر. على الوزراء العرب الذين سيجتمعون للبحث في موقفهم من جنيف – 2 في القاهرة أن يتقدموا بمبادرة تدهش كل من راهن على سيرة العجز وقصر النظر التي ربطتها بالقرارات العربية.
وعلى المعارضة السورية التي تطلب غطاءً عربياً لذهابها إلى جنيف – 2 أن تذهب أولاً إلى القاهرة باستراتيجية واعية بعيدة عن الطفيلية عنوانها أن مجرد الذهاب إلى جنيف – 2 يعني تخرّجها من الصبيانية التي قزّمتها. اذهبوا إلى جنيف، يا معارضة سورية، طالبوا بمرجعيات من دون أن تقعوا ضحية اللاءات. فعنوان جنيف – 2 هو «الانتقالية» من النظام الحاكم إلى حكم جديد. بحد ذاته مبدأ يجب التقاطه والبناء عليه، اذهبوا إلى جنيف لتقلبوا على موسكو وطهران ودمشق رهانهم على تحميلكم مسؤولية فشل جنيف. وظفوا احتجاج وزراء الخارجية العرب ليصبح ورشة عمل تضع معايير ومعالم المشاركة في جنيف – 2 وترسم استراتيجية تجعل من الأمم المتحدة شريكاً جدياً مسؤولاً عن تعريف مرجعية المؤتمر وشروط المشاركة فيه. فهذا ليس وقت حفر بئر آخر تقع فيه المعارضة السورية. إنه ليس وقت التذمر ولوم الآخر. إنه وقت لملمة النفس وعض اللسان والانقلاب على الرهان على شرذمة المعارضة السورية.
منطقياً، وعلى ضوء ما حدث أثناء جولته في المنطقة، أن ممثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في سورية الديبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي لربما يجهّز نفسه للاستقالة – هذه المرة بجدية. فلقد أفشل جميع المعنيين بجولة الإبراهيمي، وهو أيضاً لم يقصِّر في إفشال نفسه نتيجة ازدرائه واستهتاره بالمعارضة السورية ومَن وراءها بالتزامن مع إلحاحه على دور لإيران كان يدرك جيداً معارضة دول عربية خليجية له بالذات على طاولة المفاوضات السياسية في مؤتمر جنيف – 2 الذي يتم الإعداد لانعقاده لبحث مستقبل سورية. المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية رفضتا استقبال الإبراهيمي فيما كاد استقباله في تركيا أن يكون أسوأ إذ رفض رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أن يلتقيه واختزل الرئيس عبدالله غول لقائه به إلى شبه زيارة لياقة. في إيران احتفى المسؤولون الإيرانيون بالإبراهيمي وبتصريحاته التي جعلت من مشاركة إيران في جنيف 2 ركناً لا يمكن الاستغناء عنه، لكنهم لم يرفقوا وداعه بأي التزام بجنيف – 1 الذي يشكل المرجعية لجنيف – 2. فكعادتهم في إتقان فن التفاوض وتنفيذ مبدأ «خذ وطالب»، ابتسم المسؤولون الإيرانيون بتملص من الالتزام بعدما أخذوا ما أرادوه من الممثل الأممي – العربي وأدخلوه الجيب. هكذا وقع الإبراهيمي، أو أوقع نفسه، في الاستقطاب. لعله يستحق الكثير من الانتقاد والعتب، لكنه لا يستحق الإهانة ولن يقبل بها. لذلك، الأرجح أنه على عتبة الاستقالة فإذا كان، ليته يفعل ذلك سريعاً كي لا تصبح استقالته أيضاً سلعة للاستقطاب إنما مهما كان مصير الإبراهيمي ودوره، من الضروري لوزراء الخارجية العرب المجتمعين في القاهرة للتحدث حصراً عن سورية ومؤتمر جنيف – 2 أن يدققوا في ما الذي يريدونه بعد الإبراهيمي – هذا إذا سمح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف باستقالة صديقه أو إذا وافق وزير الخارجية الأميركي جون كيري على الاستقالة. فكلاهما يريد الإبراهيمي في مقعد قيادة عربة اتفاقهما على جنيف – 2، وهما سيعارضان تنحيه بشدة.
جون كيري لا يأخذ النقمة الخليجية على الإبراهيمي على محمل الجد وهو في نكران تام لمدى الغضب السعودي من الأمم المتحدة ومن الولايات المتحدة. انه يبني حساباته حول مَن سيحضر أو سيغيب عن جنيف – 2 على أسس قديمة في العلاقة الأميركية – السعودية. لذلك انه يُطمئن الأمم المتحدة أن الرياض ستحضر في نهاية المطاف. والأرجح انه لا يحسن قراءة ما آلت إليه المواقف السعودية في الفترة الأخيرة نحو الولايات المتحدة ونحو الأمم المتحدة بسبب إقبالهما بشغف على إيران واستعدادهما «تشريع» دورها في سورية عبر طاولة المفاوضات.
إصلاح العلاقة بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية أمر في غاية الأهمية وهو أمر ثنائي بين الدولتين في نهاية المطاف مهما كان العنصر الإيراني بارزاً فيها، أو مهما كانت الخلافات حول سورية جذرية. واشنطن والرياض تدركان أن العلاقة التاريخية بين الدولتين لن تنهار لكن الاستياء السعودي من السياسة الأميركية نحو سورية وإيران ليس تمثيلية. انه أكثر من مجرد انزعاج من السياسة الأميركية لأن ما تحتج عليه الديبلوماسية السعودية يدخل في خانة موازين القوى في منطقة الشرق الأوسط ويصب في خانة الاستعداد الأميركي لإضفاء الشرعية على الدور الإقليمي الإيراني في المنطقة العربية، بالذات في بلدين مهمين عربياً: العراق وسورية. لذلك، يخطئ كيري إذا افترض أن هذه سحابة عابرة.
يخطئ كيري، بل يورّط الأمم المتحدة، إذا أوحى لها أن المملكة ستوافق على الجلوس إلى طاولة جنيف – 2 في النهاية. فهذا رهان خاسر ليس فقط من حيث فرضيته وإنما من حيث معناه. ذلك أن الأفضل للأمم المتحدة أن تعمل بجدية على إصلاح العلاقة مع السعودية لأنه في مصلحة الطرفين. ومن الضروري للرياض أن تتبنى الانخراط، بدلاً من المقاطعة، في استراتيجية يجب أن يكون هدفها إصلاح وتطوير العلاقة مع المنظمة الدولية.
على الأمين العام بان كي مون ونائبه يان الياسون – وهو رئيس «مجموعة الاتصال» المعنية بمتابعة ومواكبة التطورات السورية – التوجه إلى طاولة رسم السياسات لإعادة النظر في ما هي الخيارات المتاحة الآن في أعقاب إفشال جولة الإبراهيمي.
فإذا أراد الاستمرار في العمل نحو عقد جنيف – 2 عليهما، أولاً، أن ينخرطا شخصياً معاً في إصلاح العلاقة مع السعودية لأن لها نفوذ مع المعارضة السورية التي لن يكون ممكناً عقد جنيف – 2 من دون مشاركتها.
ثانياً، على بان والياسون والفريق الذي يدعم الممثل الخاص في مبنى الأمانة العامة في نيويورك – ومن بينهم وكيل الأمين العام للشؤون السياسية جيفري فيلتمان – أن يتوقفوا عن المواربة في تحديد مرجعية جنيف – 2 ومؤهلات الذين يشاركون في المؤتمر. فليس كافياً القول إن رسالة الدعوة للمشاركة ستنص على أن مرجعية جنيف – 2 هي جنيف – 1 أي إطلاق العملية السياسية الانتقالية في سورية عبر هيئة تتفق عليها الحكومة والمعارضة تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية. يجب الحصول على ضمانات مسبقة بأن الدولة التي ستتشارك في جنيف – 2 ستعلن قبولها بمرجعية جنيف – 1. يجب أن يكون ذلك شرطاً مسبقاً للدول التي ستُدعى إلى جنيف – 2. فالمعركة على تفسير جنيف – 1 دامت سنة ونصف، وما زالت مستمرة بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن على رغم الاستعداد الأميركي «للتوريق» فوقها الآن. ذلك أن «عقدة الأسد» ما زالت العقدة وليس هناك ما يفيد بأن روسيا – أو إيران – على استعداد للتخلي عن إصرارهما على بقاء فعلي وفاعل للأسد في العملية السياسية الانتقالية وفي الحكم في سورية. لذلك انهما تتملّصان من الوضوح في شأن جنيف – 1. مفهوم أن روسيا كدولة دائمة العضوية في مجلس الأمن ستكون طرفاً في جنيف – 2 بغض النظر عن وضوحها أو غموضها نحو جنيف – 1. إنما ليس هناك من داعٍ لأي كان أن يُدعى إلى جنيف – 2 محمَّلاً بالغموض وبالتملص عندما يُسأل عن موقفه من إنشاء هيئة للعملية السياسية الانتقالية يكون لها كامل الصلاحيات لإدارة البلاد. فحقيقة الأمر أن طهران لا توافق على ذلك.
على بان والياسون أن يتذكرا – بل أن يُذكرا العالم – أن عدد القتلى السوريين عند انعقاد جنيف – 1 في حزيران (يونيو) 2012 كان حوالى 10 آلاف شخص. اليوم، إن العدد وصل إلى أكثر من 110 آلاف قتيل فيما استمرار المعارك السياسية على تفسير ما تم الإجماع عليه في بيان جنيف – 1.
عليهما البدء في التفكير بدورهما المباشر في صنع جنيف – 2 في حال استقال الإبراهيمي. فهذه مناسبة لانخراطهما الضروري في المأساة السورية كي لا يظهرا وأنهما في احتفاء دائم بإعادة ملف سورية إلى الأمم المتحدة عبر بوابة الأسلحة الكيماوية وعلى متن عربة الوفاق الأميركي – الروسي الذي أعاد الإجماع على قرار تدمير الترسانة الكيماوية السورية إلى مجلس الأمن. فلقد حان موعد الاستفاقة من الاحتفاءات المفرطة – بعض منها لأسباب خيالية – فيما الواقع على الأرض يسجّل دموية مستمرة ويدشن اندلاعاً خطيراً للنزاع السوري على الأراضي اللبنانية.
يجب ألاّ تكون الأمم المتحدة شريكاً للاستراتيجية الروسية المصرّة على انعقاد جنيف – 2 في موعده ضماناً لفشله – وهذه مسؤولية بان والياسون بصورة مباشرة. على الأمانة العامة الاستدراك لأنها في فوهة البركان. والأهم، ولأنها عنوان القيادة الأخلاقية، على الأمانة العامة أن تكف وراء الاختباء وراء عجز مجلس الأمن حيناً أو إجماعه حيناً آخر. فهي في مسألة مؤتمر جنيف – 2 تمتلك مفاتيح انعقاده. فليشمّر بان كي مون ويان الياسون عن ساعديهما ويدخلا بقوة في عملية إنجاح جنيف – 2 بدلاً من القبوع في ظل ما ترتأيه الولايات المتحدة وروسيا.
راغدة درغام/مسؤولية الأمم المتحدة عن إنجاح «جنيف 2»
19
المقالة السابقة