-في الوقت الذي يبدو فيع "العيد" هذا النهار، كمناسبة دينية اجتماعية مشتركة لملايين الناس، هنا وفي كل مكان، فإنه لا يمثل في الوقت نفسه قاسماً مشتركاً لكل المحتفين بهذا اليوم. إذ تُطل علينا ذكرى التضحية والفداء، من زاوية تأملية، بعينين جاحظتين ومفعمتين بالدهشة إزاء ما آل إليه الحال العام الذي يجلّ عن كل وصف. وتستطلع وجوهنا، من ناحية ثانية، عينان جريئتان أخرتان، تكاد كل واحدة منهما تخترق مكنون الصدور وما في النفوس من لواعج شخصية وأوجاع مكتومة، وذلك لشدة ما فيهما من قدرة على الاستظهار والاستنطاق والكشف.وهكذا، فإننا نقف اليوم إزاء ما يشبه أربع عيون زجاجية. ولكن السؤال هو: من هم هؤلاء الناس أصحاب العينين الجاحظتين، غير المصدقتين لما يغص به المشهد العربي من آمال خائبة، ورهانات مبددة، ووقائع صادمة، وتطورات خارج نطاق كل سيطرة؟ ولعل الإجابة التي لا تستدعي إعمال عقل كثير، ولا تحتاج معرفتها سوى إلى انطباع أولي سريع، تشير إلى أن أصحاب العينين المفتوحتين على اتساع حدقتيهما هم المشتغلون بالهم العام؛ من كتاب ومثقفين وحزبيين، انبرت أقلامهم، وطاشت سهامهم، وهم يشاهدون "الربيع العربي" وقد تصحّر مناخه سريعاً، وبات غير قابل للتشخيص والفهم والاستيعاب.في مقابل هاتين الجاحظتين المفعمتين بالأسى والالتياع، تحاصرنا وتسد علينا الآفاق عينان جريئتان تتوسطان وجوه أناس آخرين، لديهم طاقة لا محدودة على تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية، وقلب الأمور على أعقابها، والجهر بالكذب الصراح من دون خجل أو وجل! وكأن هؤلاء المترفعين عن الواقع لا يرون إلا ما يرغبون في رؤيته، ولا يصدقون ما تصدقه الكافة من حولهم؛ صم عمي بكم لا يفقهون! يقولون للصباح يا أسود الوجه، ولليل يا صبيح المحيا.. ويمضون هكذا في غيّهم، ويدأبون على خلط الحابل بالنابل إلى النهاية التي لا نهاية لها.وأحسب أنه يندرج على امتداد هذه الواجهة العريضة من أصحاب العيون الجريئة، أناس كثيرون من ذوي العصبيات الدينية والأيديولوجية، وآخرون من المتمترسين وراء الأهواء الخاصة والمصالح الجزئية الصغيرة، إلى جانب غيرهم من الذرائعيين والرغائبيين والمشتغلين بأنصاف الحقائق، ومن في سويتهم من المتمسكين بالعقائد اليابسة، ناهيك عن الساذجين والمدعين، والمأخوذين بسحر الشعارات القديمة التي ماتت وشبعت موتاً، إلا أنها ظلت عالقة في أذهانهم كمومياء من عصر الفراعنة، تستهوي المؤرخين، وتستقطب السائحين، ولا يحفل بها سوى المتفاخرين بأمجاد الأزمان الغابرة.وفيما يمكن تصنيف العيون الأربع، بشيء من المبالغة، على أنها من فئة العيون الزجاجية، إلا أن هناك عيوناً أخرى بعدد النجوم في ليلة صافية، تطل علينا، وتملؤ فضاءنا؛ بعضها عيون كسيفة وبعضها الآخر حزينة، تستقبل هذا العيد بنفوس تفيض بالقهر والألم، وتتوارى خلف غلالة من الكبرياء المفتعلة، رغم أنها تئن تحت وطأة أكلاف لا تقدر على دفعها، ومطالب استثنائية لا تستطيع تلبيتها، ووعود لأبنائها لا تتمكن من الوفاء بها. وهؤلاء عموم الناس الذين يشبهوننا ونشبههم؛ أرباب الأسر، العاطلون عن العمل، الغارمون، المكتوون بنار الغلاء، ذوو العيون البصيرة واليد القصيرة.. أي الكثر الكاثرة من الناس في محيطنا المباشر.وعليه، فإنه يمكن القول إن للعيد أربع عيون زجاجية واسعة، تتوسط وجوه أناس نعرف القليلين منهم ونسمع عن الكثيرين من أمثالهم. غير أنه إلى جانب ذلك، هناك عيون آدمية حيية، تحتشد في هذه المناسبة ككل عام، متطلعة إلى نظرة حانية، ويد دافئة، وكلمة طيبة، وفوق ذلك كله عمل إيجابي ومبادرات فعلية، لعلنا نتمكن جميعاً من تضميد جرح غائر لواحد هنا، أو إغاثة ملهوف هناك، أو سد حاجة ماسة يستحي البعض من البوح بها، وهم كثر نكاد لا نراهم، ولا نشعر بوجودهم إلا في مثل هذه المناسبة التي تدعو إلى الرحمة والسخاء والتكافل بين الناس.