لقد وقعت الشعوب العربية ضحية مفاهيم مغلوطة ومقلوبة لمعنى التمدن، واستغرقت في مظاهر سطحية مغرقة في الشكلية للرقي والتحضر، حيث بات الامعان في الثقافة الاستهلاكية، المتمثلة في الاقتصار على ألوان المأكولات والشراب واللباس، والمباني والسيارات، الممزوجة في الاستعراض والتفاخر في الأنماط «والموديلات»، دون الاحساس بامتلاك أدوات الإنتاج أو محاولة حيازة القدرة على الابتكار والتجديد.
إن الاستغراق في المتعة والتلذذ في استهلاك البضاعة المستوردة، وظهور ثقافة التبرير الكفيلة بمقارنة الانسان بالألم نتيجة الشعور بالعجز عن مجاراة الشعوب المنتجة عبر مقولات فاسدة وتنضج بالغباء مثل : «الحمد لله الذي سخر لنا من يصنع السيارات لنركبها، والملابس لنلبسها، والحمد لله الذي سخر لنا من يزرع لنأكل …» ، وأحياناً يتم صبغ هذه المقولات ببعض الأصباغ الدينية وعبارات المدح والثناء الساذج للزعماء والقادة التي لا تخلو من البلاهة !!
يجب أن نعلم علم اليقين أن التقدم الحقيقي يتمثل بامتلاك القدرة على تصنيع ما نحتاج، وامتلاك القدرة على زراعة ما نأكل وامتلاك القدرة على انتاج ما يستر عوراتنا، وأن لا نطيل الاستغراق في النوم العميق، والكسل السريري، والعجز المنقطع النظير عن اللحاق بمجتمعات الإنتاج التي تمتلك جوهر التمدن ومعنى التحضر الحقيقي، إذا فات الكبار إدراك هذا المعنى، فينبغي أن لا نورث أبناءنا ثقافة العجز والتواكل وإتقان التثاؤب.
يترتب على هذا المعنى جملة من المعاني الأخرى، إذ ينبغي أن نقف على معنى المتعة وجوهر اللذة، التي يبحث عنها العقلاء، فلا يمكن أن تكمن في البلادة الذهنية وعجز الارادة، وانعدام الطموح وقلة الحيلة وادامة الانتظار لما تنتج الشعوب الأخرى وما تستطيع أن تقدمه لنا من منتوجات جديدة ومخترعات متطورة، بل يجب أن نعمل تعليم الأجيال أن المتعة تكمن في تطوير ملكات العقل على التفكير الصحيح واكتشاف نواميس الكون وأسرار الحياة، وينبغي أن نعلم أبناءنا أن الاحساس باللذّة يكمن بالشعور بالرضى عن النفس عندما تفوز بالسباق في ميدان التنافس بين القادرين على التطوير والتحسين في أدوات الاستثمار في الامكانات الذاتية واستقلال القدرات الذاتية .. !
المشكلة المتفاقمة التي تثقل كواهلنا، أننا لا نسير نحو الحل ولم نبدأ الخطوة الأولى باتجاه امتلاك ناصية العلم وأدوات الانتاج بل تزداد الأمور سوءاً عندما مرة الأجيال الجديدة أكثر استغراقاً في ثقافة الاستهلاك وأكثر بعداً عن تطوير الذات، من أجل تقليل الاعتماد على الغير، وتقليل نسبة المستوردات، وزيادة نسبة المنتوجات المحلية القادرة على تغطية حاجاتنا الضرورية والمحلية، فضلاً عن التفكير بالتصدير.
انظروا الى التنافس المحموم بيننا جميعاً، وخاصة في فئة الشباب في امتلاك أرقى الأجهزة الخلوية، من صنع الشعوب الكورية والصينية والهندية والغربية وكل شعوب العالم، وليس هناك بوادر لاشغال بذرة التنافس بين الشباب في محاولة انتاج مثل هذه الأجهزة ولا حتى مجرد التقليد بإنتاج بضاعة مشابهة فضلاً عن التفكير في إبداع منتوجات جديدة !!.
من المفارقات أن سجادة الصلاة من صنع الصين وكذلك السبحة والثوب والحطة والعقال والملابس الداخلية والخارجية، ولعب الاطفال والرجال، وأحياناً ترى بضاعة في السوق من صنع الفيتنام التي تعيش ذكريات حرب طاحنة قبل سنوات، وتقرأ عندنا زيادة في العجز في الميزان والتجاري، وزيادة في أرقام المديونية، وزيادة في حوادث العنف واطلاق الأعيرة النارية ..!!
ينبغي أن يكون حديث الآباء مع الأبناء، وحديث المعلم مع التلاميذ، وحديث الوزراء والقادة، وحديث المجالس متركزاً على معنى التمدن الحقيقي الذي نسعى اليه ، و أن لا يكون بخروج الشباب للمعاكسة في السيارات وممارسة البلادة والتمتع في إيذاء خلق الله ، بل ينبغي أن يكون بالاجابة على سؤال كبير وملح: ماذا استطيع أن أقدم لبلدي ؟ وكيف أخدم و احترم شعبي وأمتي ؟ وما هو دوري في الحياة ؟ وما هي رسالتي ؟ ما هو الجديد الذي أستطيع أن اتميز به عن أقراني؟ وهذا السؤال يجب أن تجيب عنه كل مؤسسة وكل جامعة ، وكل مدرسة ، وكل حزب وكل جماعة ، وكل رجل وكل امرأة ..