يعيش العالم حالياً مواجهة سياسية حادة بين الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية بسبب الحرب الدائرة في سوريا بين شعب غالبيته ثائرة على النظام الحاكم فيها وبين نظام مصمم على القضاء على ثورتها بكل الوسائل الممكنة، وإن تجاوز باستعمالها كل الروادع الإنسانية والقانونية الدولية والدينية والأخلاقية. فالأولى مع الغالبية المشار إليها. والثانية مع النظام. ويعيش العالم نفسه قلقاً كبيراً بسبب المواجهة المذكورة، لأنه يخشى تحوُّلها حرباً غير مباشرة وربما مباشرة لا يمكن أن تكون إنعكاساتها عليه وعلى السلام والأمن الدوليين كما على الإقتصاد العالمي إلا بالغة السلبية.
طبعاً لم تنطلق المواجهة المشار إليها بسبب الخلاف في موقف الدولتين العظمى والكبرى من التطورات الدموية في سوريا. كما أنها لم تنطلق مباشرة من العداء القديم بينهما، وخصوصاً يوم كانت روسيا دولة عظمى (الإتحاد السوفياتي)، ويوم نجحت وعلى مدى عقود في تحدِّي النفوذ الأميركي في مناطق عدة من العالم وفي مشاركة أميركا زعامته لا بل قيادته. ذلك ان انهيار “الإتحاد” المذكور واستبدال وريثته روسيا النظام الشيوعي بآخر ديموقراطي مشابه لأنظمة أميركا والغرب وإن في الشكل حتى الآن، ومرورها بحال من الفوضى في المرحلة الإنتقالية، كل ذلك جعلها تعيش نوعاً من “شهر عسل” إذا جاز التعبير على هذا النحو مع الولايات المتحدة. لكن هذا الأمر على صحته لا ينفي شعور القادة الجدد في روسيا وخصوصاً بعد استقرار أوضاعهم وإن في الحد الأدنى، أبرزهم حتى الآن رئيسها السابق والحالي وربما اللاحق فلاديمير بوتين، بالمرارة جراء السياسة التي انتهجتها الإدارات الأميركية حيال بلادهم والتي استنتج منها هؤلاء أن الشراكة بين الدولتين لم تكن هدفاً أميركياً، بل منع روسيا وبإجراءات متنوعة سياسية وعسكرية وإقتصادية من العودة قوة عظمى، وتالياً من تشكيل تهديد جدي لأوروبا كما في السابق ومن خلالها لأميركا واستراتيجيتها الدولية ومصالحها في العالم. وقد أظهر الإختلاف بين موسكو وواشنطن حول سوريا منذ بدء الثورة فيها على نظام الأسد في آذار 2011 وخصوصاً بعد تحوّله مواجهة قاسية، المرارة الدولية المذكورة أعلاه وبوضوح كامل.
في أي حال، يقول باحثون أميركيون جديون متابعون ومن زمان للعلاقات الروسية – الأميركية، أن موسكو وواشنطن اختلفتا منذ عام 1989 على عدد كبير من الموضوعات وخصوصاً عندما بدأت الأولى تعمل لصد زحف النفوذ الغربي (الأميركي) على حدودها الواسعة، وفي الوقت نفسه لمواجهة المحاولات الأميركية لاحتوائها التي استمرت رغم إنشغال واشنطن بالعالم الإسلامي وتطوراته. ومن علامات الإحتواء إدخال دول “سوفياتية” سابقة في حلف شمال الأطلسي، ونصب درع صاروخية يسمى تقنياً الصواريخ الدفاعية الباليستية في مناطق محاذية لها. والأمران اعتبرتهما إستهدافاً لها وليس تحسباً لمواجهة “اعتداءات” الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومن علامات الإختلاف استغلال واشنطن مرحلة الإنتخابات الرئاسية الروسية عام 2012 لتشجيع التظاهرات الشعبية المعارضة لإعادة انتخاب بوتين رئيساً بسبب لاديموقراطيته.
هل تعني العلاقة الباردة ثم المتوترة بين روسيا وأميركا في العالم عموماً وفي سوريا خصوصاً أن اشتباكاً مباشراً عسكرياً بينهما لم يعد بعيداً؟
يستبعد الباحثون الأميركيون أنفسهم ذلك. ويعطون سببين لاستبعادهم، واحد عملي وآخر نظري. العملي هو إمتناع روسيا عن قطع طريق إمداد القوات الأميركية الموجودة في أفغانستان بكل احتياجاتها بعد قطع باكستان طريق مماثل آخر يمر في أراضيها جراء خلافات عدة مع واشنطن. أما النظري فهو حرص موسكو على منع التردي الحاصل في علاقتها الأميركية من التحوُّل أزمة كبيرة صعبة الاحتواء وقابلة للتحوُّل عسكرية. ومن أسباب ذلك رفضها عودة التحالف الأوروبي – الأميركي إلى ما كان عليه أيام الإتحاد السوفياتي. ومنها حرصها على عدم إنفلات الوضع في أفغانستان تلافياً لتأثيره السلبي عليها. ومنها ثالثاً معرفتها أنها لا تستطيع أن تنافس أميركا في عملية الحشد العسكري تحضيراً لأي مواجهة. ومنها أخيراً قرارها، ورغم ممارستها سياسة إنتهاز الفرص لإزعاج أميركا وربما إيذاء مصالحها، عدم دفع الأزمة إلى نهايات سلبية قصوى لمعرفتها بعجزها عن السيطرة عليها.
سركيس نعوم/روسيا وأميركا قبل سوريا وبعدها
16
المقالة السابقة