بعد “الربيع العربي”، يبدو عدمياً الإصرار على التقليل من شأن تأثير الإصلاح السياسي على الأوضاع الاقتصادية، وضمنها معدلات النمو التي يحققها الاقتصاد.
وبسيطرة حالة التنافس طويل النفس بين الدولة وبين القوى السياسية، فإن الضرر لن يقتصر على هذين الطرفين، بل هو يطال، وبشكل أكبر، الوضع الاقتصادي، ليدفع كلف ذلك الجميع.
عدم الربط بين المشهدين السياسي والاقتصادي أفقد البلد فرصة استثمار حالة الاستقرار السائدة فيه مقارنة بالبلدان الأخرى. يدلل على ذلك الارتفاع الكبير في قيمة فائض السيولة النقدية لدى البنوك العاملة محليا خلال السنوات الماضية، والتي تبلغ حاليا نحو ملياري دينار، فيما قدرت قيمة هذا الفائض في العام 2008 بحوالي 600 مليون دينار.
الأرقام السابقة تؤكد أن ودائع القطاع المصرفي المحلي تنمو بشكل كبير، لكن المشكلة التي يواجهها القطاع والاقتصاد معا تكمن في صعوبة استثمار هذه الأموال لدفع العجلة الاقتصادية وتحقيق النمو المطلوب، وبما يساهم في تحقيق التنمية الشاملة، وخلق فرص عمل تساعد في تقليص نسب الفقر والبطالة.
لماذا تتجمد كل هذه المبالغ لدى البنوك؟ الإجابة الصريحة تتمثل في غياب الأفق، وسيادة الشعور بعدم اليقين حيال المستقبل؛ نتيجة استمرار الفوضى في العديد من دول الإقليم، وعدم الاطمئنان إلى ما ستؤول إليه الأمور محليا.
المهم محليا أن الجميع بدون استثناء فشلوا في استثمار الحالة المتفردة التي جناها الأردن من “الربيع العربي”، مقارنة بدول أخرى يشتعل فيها الصراع ويقيم فيها الموت. ولم يتمكن عقل الدولة من تجاوز النقطة الحرجة، بخلق حالة من التوافق الداخلي على المستوى السياسي تساعد في قطف فوائد الاستقرار في المملكة اقتصاديا.
حالة اللايقين التي يشعر بها كثيرون، انعكست بشكل عميق على أداء القطاعات الاقتصادية؛ إذ نجد المبادرة في أقل مستوياتها، والأموال مكدسة لدى البنوك خوفا من الإقدام على خطوة غير محسوبة النتائج.
التفاصيل كثيرة، لكنها تبدأ من ارتفاع كلف الأموال على البنوك، نتيجة زيادة أسعار الفائدة على الودائع، والتي تبلغ حدود 6 % للعملاء المميزين؛ ما تسبب أيضا في زيادة أسعار الفائدة على التسهيلات إلى مستويات لا تشجع أحدا على الاقتراض، باستثناء الحكومة التي تجد في أموال القطاع المصرفي منفذا من أزمتها المالية؛ بتغطية الفجوة التمويلية للموازنة، والتي تقدر بقيمة 5 مليارات دينار.
الضرر غير المباشر لسياسة الحكومة الاقتراضية يصب في العامل ذاته التي يعقّد عملية الاقتراض للراغبين، وهم قلة؛ نتيجة منافسة الحكومة لهم، ما يجعل الأفراد أقل جاذبية للبنوك مقارنة بحكومة تصنف كعميل مميز قادر على السداد.
بالمحصلة، امتنع العميل الجيد عن الاقتراض خوفا من مصير مجهول، كما لم يستطع المغامر أن يحصل على القروض بسبب منافسة العميل القوي المتمثل في الحكومة.
من جديد، فإن الخروج من عنق الزجاجة يرتبط بشكل وثيق بخلق حالة من التوافق الوطني، تشترك في وضعها جميع القوى السياسية والفعاليات الاقتصادية، وليكون الكل شريكا في صناعة مستقبل أفضل، وتبديد حالة اللايقين وفقدان الثقة. ومن ثم، يساهم الجميع في رسم أفق جديد، شريطة توفر الإرادة الرسمية بتجاوز هذه العقبة.
من مصلحة الدولة، بالدرجة الأولى، خلق مزاج جديد، لأن هذا المزاج هو ما يساعد على تحسين الحالة الاقتصادية، ويؤدي إلى تخفيف حالة التشنج الشعبي الناجمة عن تراجع المستوى المعيشي، وعجز الحكومات عن التخفيف من مشاكل المجتمع الاقتصادية.
خلال الأشهر الماضية، لم نشهد انطلاق مشروع خاص جديد، أو حتى توسعة لمشروع قائم. وأسباب ذلك ليست بعيدة عن المزاج السيئ المتشائم من المستقبل.