الفيلم اللبناني «تاكسي البلد» ..شاعرية الخيبة والعجز

عروبة الإخباري – الفيلم اللبناني (تاكسي البلد) للمخرج دانيال جوزيف هو واحد من بين الأفلام اللافتة في عروض مهرجان الفيلم العربي الذي اسدل الستار على فعاليات دورته الثالثة في عمان مساء امس الجمعة، وفيه استعادة لمحطات في حياة شاب لبناني – يؤدي الدور الممثل طلال الجردي- قرر ان يعمل على تاكسي اجرة في العاصمة اللبنانية لعله يواجه الكثير من الخيبات في حياته اليومية.
انجز المخرج الشاب (35) عاما فيلمه عقب عودته من دراسته الاكاديمية في الولايات المتحدة الاميركية باسلوبية مليئة بعناصر اللغة المشهدية المتناغمة بموضوعه الذي يدور في بيئة لبنانية تجمع بين الريف والمدينة، حيث تداعيات شخصيته الرئيسية وهي تروي مواقف في نشأته وعلاقاته مع والديه وأقاربه والجيران واقرانه من فتيان الحارة ورجالاتها، على نحو يجمع مابين الدعابة والنغمات الموسيقية والغنائية في تماسك متين يعطي للحدث تفاسير لمعالجة درامية تتأسس على ذاكرة الراوي واحيانا يشيد المخرج قصة اخرى على الفلاش باك نفسه.
تسير احداث الفيلم بين الوقت الراهن حيث سائق التاكسي الذي يبحث عن زبائنه في ساعات الليل ومن خلال تلك النماذج الانسانية يقدم المخرج بفطنة ونباهة نسيجا اجتماعيا متنوعا من العلاقات وانماط التفكير والاحاسيس والمشاعر المتدفقة رغم الجروح والانكسارات الشخصية والعامة حيث ما زالت سنوات الحرب الاهلية التي عصفت بلبنان العام 1975 تلقي بظلالها على ذاكرتهم، مع أن المخرج يفتتح فيلمه من خلال عيني الطفل/ السائق حاليا في زمن يسبق شرارة الحرب بقليل، وتتالى الاحداث في تدرج زمني لا يلبث ان يقطعه المخرج بلحظات الفلاش باك المتكررة والتي يركب عليها في احد المواضع فلاش باك اخر، على نحو يذكر باسلوبية المخرج المصري توفيق صالح بفيلمه المعنون (المخدوعون).
ومثل هذا البناء الدرامي السلس لا يشكل صعوبة على المتلقي العادي للفيلم، بل يعتاد عليه طيلة احداث الفيلم ويأخذ بالتفاعل مع شخوص العمل وقصصهم وحكاياتهم الاثيرة التي لا تتوانى كاميرا دانييل جوزيف من تصويرها باجواء ومناخات عذبة تراعي شرط الزمان والمكان في جماليات والوان – توظيف متين للونين الاسود والابيض – المستمدة من تكوينات بيوتات وحوانيت اهالي القرية بالتوازي مقارنة مع شوارع وساحات واجواء بيروت في ساعات الليل أو وهي تظهر مقاهيها واسواقها من نافذة السيارة، كما ويوظف الفيلم شريط الصوت الذي يجيء من راديو السيارة في اذاعته لنشرة الاخبار ومن خارج الكادر عبر اغنيات عربية وموسيقى عالمية ومن داخل الكادر هناك عازف الكمان اسفل شرفة فتاته وفي موضع اخر من الفيلم هناك احتفالية غنائية عزفية للموسيقار اللبناني شربل روحانا وفرقته .
ينسج الفيلم من شبكة احداثه وعلاقات شخوصة ايقونة بصرية تنهض على حركة التاكسي داخل العاصمة، طارحا الكثير من الرؤى والافكار المتباينة تجاه الواقع بتأثر واضح بتلك الكلاسيكيات من القامات الرفيعة في تيار الواقعية الجديدة بالسينما الايطالية، وتلك السينما البديعة التي ينجزها المخرج البوسني امير كوستاريكا، الا انها هنا ايجابية التوجه في الرغبة بالألهام الذي يبغي الاضافة والابتكار للتعبير عن هوية وذائقة مخيلة مخرجه الشديدة الالتصاق بالبيئة اللبنانية.
اتسمت اسلوبية المخرج جوزيف بتلك المتعة ولحظات الدعابة التي تميل الى مجاراة تيارات الابداع السينمائي ببساطة، حيث أستطاع ان ينجز عمله بميزانية غير متكلفة دون التخلي عن شرطها الجمالي الخاص، وهو بهذا العمل يثبت مكانته كمخرج ينأى عن صرامة أفلام جيل الرواد في السينما اللبنانية التي ظهرت باشتغالات جورج نصر وبرهان علوية ومارون بغدادي وجان شمعون بل راحت تنهل مما هو جديد في السينما العالمية.
لا يقدم الفيلم نقدا او ادانة لاوضاع اجتماعية او سياسية بقدر ما يكشف عن تطلعات وامال متفاوتة في الحب والاستقرار والهجرة والعمل راصدا تلك اللحظات والتحولات الجديدة التي طرأت على حياة وسلوكيات الافراد في المجتمع اللبناني بدءا من عشية الحرب الاهلية الطاحنة، ومرورا بالاحتلال الاسرائيلي للعاصمة بيروت العام 1982 ، وصولا الى الواقع الحالي حيث تبلورت فيها معان جديدة في العلاقات والتفاهمات التي تجمع مكونات النسيج الاجتماعي اللبناني، لذلك جاء الفيلم ملتزما خياره الفني بعيدا عن طرح أي شعارات زاعقة او مواقف مباشرة بقدر ما كان الفيلم يحاكيها باشارات ودلالات الحوار والنقاش بين سائق السيارة وزبائنه من الركاب، والتي كانت حوارات يغلب عليها الهدوء حينا، وموجة من الغضب حينا اخر.
وعلى هذا الاساس نجح المخرج دانييل جوزيف في فيلمه (تاكسي البلد) من تقديم اسلوبية تتكامل مع تلك السينما التي بات ابناء جيله من مخرجي ومخرجات الفيلم اللبناني الجديد : زياد الدويري ، جورج هاشم ، بهيج حجيج، ونادين لبكي وسواهم كثير من بين صناع الافلام، الذين باتوا يقدمون في افلامهم اكثر من توليفة تجمع بين الفيلم كأداة توصيل لخطاب فكري درامي وانساني دون اختزال شرطه الجمالي في تقديم عناصر البهجة والمتعة السمعية البصرية من مواقف تنبض بسخرية ودعابات مرحة من الحياة اليومية المثقلة بالازمات، وهناك موسيقى عذبة وصور شاعرية خلابة ذات ايقاع متناسق، يجري تقديمها بلغة سينمائية هادئة بسيطة لتؤشر على الفجوة ما بين فضاءات الاحلام الرحبة للافراد وقتامة الواقع وقسوته الامر الذي يكفل لصناع الفيلم الوصول الى قطاعات واسعة من عشاق الفن السابع والمهتمين ورواد الصالات.

شاهد أيضاً

كان النوم يأخذني خلسة دون عناء

عروبة الإخباري – د. ناديا مصطفى الصمادي كان النوم يأخذني خلسة دون عناء يضعني بين …

اترك تعليقاً