وُلدت ونشأت في جيل عُرف بالكرم وحسن الضيافة بشكل مميز؛ فقد كان أفضل ما في البيت يخرج للضيوف، ابتداءً بأصناف المأكولات المتنوعة وانتهاءً بأدوات السفرة الفاخرة والشراشف المطرّزة. ولكننا كنا نعرف مدى معزّة ضيف ما بمجرّد رؤية الصينية الفضّية البرّاقة التي اصطفت عليها علب السجائر الفاخرة بكل أناقة وترتيب، والتي كانت توزع بكل فخر على بقية الضيوف، مع الحذر من عدم الارتطام بالأطفال الذين يلعبون ويركضون بين سُحب الدخان التي تملأ الأرجاء.
كما أنني أذكر وجود حلويات تشبه السجائر أيضاً في ذلك الوقت، وكنا نحبها جداً، ليس فقط لطعمها اللذيذ، بل لأنها كانت تعطينا الفرصة لتقليد كبار العائلة من المدخنين – مثلنا الأعلى، والتظاهر بأننا أشخاص كبار وذوو أهمية كبيرة. وكان هذا، للأسف، منظراً معتاداً، ومقبولا.
من هنا، نشأ جيل كامل من المدخنين. ولكن، على الأقل، لم تكن الإحصائيات معروفة في ذلك الوقت، ولم نكن نعلم العديد من الحقائق؛ فنحن لم نكن نعلم أن التدخين مسؤول عن 50% من الوفيات بسبب السرطان وأمراض القلب والسكري وأمراض الرئة. ولم نكن نعلم أن التدخين مسؤول بشكل مباشر عن ثلث جميع السرطانات، و90% عن سرطانات الرئة تحديداً. فكما قال أحدهم: «لتعرف المزيد عن سرطان الرئة… استمر في التدخين.»
أما اليوم، فبالإضافة لمعرفتنا الحقائق الصريحة، فنحن نرى أعداد مرضى السرطان في ازدياد، ونعلم علم اليقين أن سرطان الرئة هو أحد أنواع السرطانات الخمسة الأكثر شيوعاً في الأردن، والسرطان الثاني المسبب للوفيات بين النساء والرجال والأطفال، وهو وحده يكلف حكومتنا ملايين الدنانير في قطاع الرعاية الصحية.
ومع هذا، نرى علب السجائر تملأ أرفُف المحلات، والحصول عليها أسهل من الحصول على أي سلعة أخرى في السوق! وحتى في الوقت الذي نشهد فيه ارتفاع أسعار كل شيء حولنا، فإن أسعار علب السجائر، وبعكس جميع القوانين الاقتصادية، تنخفض يوماً بعد يوم، وهو ما يضع العقل في حيرة شديدة!
دعوني أكون واضحة، أنا لست ضد المدخنين، فأنا أراهم أولاً وأخيراً ضحايا؛ فهم ضحايا الإدمان على التدخين، بالإضافة إلى أنهم، بنظري، ضحايا لمؤامرات شركات تصنيع السجائر. وأنا فعلاً أتمنى أن يتذكر المدخنون أنهم في كل مرة يشعلون فيها سيجارة، فإنهم يضعون ملايين الدنانير من الأرباح في جيوب المساهمين في شركات تصنيع السجائر.
هل فكرت يوماً بمدى قوة هذه الشركات، وبمدى الأرباح التي تجنيها من هذا النوع من التجارة؟
فكر في الأمر بهذه الطريقة؛ أين يمكنك أن تجد في العالم كله تجارة مشروعة تنتج منتوجات مكتوبا عليها بكل صراحة ووضوح «هذا المنتج يقتل» ومع هذا تجده متواجداً بشكل وفير جداً على أرفُف المحلات! هنا في الأردن، إذا وجدت الحكومة بعض العيوب في منتج معين، زيت الزيتون على سبيل المثال، فإنها تقوم فوراً بمصادرته وسحبه من الأسواق والمحلات، ولكن هذا لا يطبق على منتج قاتل كالسجائر! وكما قال أحدهم: «السيجارة هي المنتج الوحيد الذي إذا تم استخدامه وفقاً للتعليمات، فإنه يقتل المستخدِم.»
فشركات تصنيع السجائر تتمتع بزبائن أوفياء جداً، حيث أن كل ما عليها فعله هو إقناعك بتجربة منتجها مرة أو مرتين، ويفضل في سنّ صغيرة، ومن ثم فجأة يصبح لديها زبائن أوفياء لطول العمر، مستعدون للتضحية برواتبهم المتواضعة، وقوت عائلاتهم، وصحتهم، وحتى صحة أبنائهم وأحبائهم، فقط من أجل التدخين. فمع كل نفخة، تزداد شركات تصنيع السجائر غنىً، ومع كل نفخة هناك مريض سرطان جديد يتم إدخاله إلى مركز لعلاج السرطان.
القضية هنا أصبحت جدية، ونحن –غير المدخنين- علينا أن نجعل أصواتنا مسموعة؛ علينا أن نطالب بحقنا في تنفس هواء نقي، علينا أن نطالب حكومتنا بتطبيق قرار حظر التدخين في الأماكن العامة، علينا أن نطالب بعدم جعل السجائر متاحة لمن أعمارهم أقل من 18 عاماً، وعدم السماح لبيعها على أبواب المدارس الابتدائية! علينا أن نرفع أسعار السجائر، علينا أن نوقف القتل البطيء لأطفالنا وأبناء مجتمعنا، علينا أن لا نكون «البقرة الحلوب» ومصدر أموال لشركات تصنيع السجائر.
اتخذ قرارك اليوم، لا تكن ضحية بإرادتك، واطفئ تلك السيجارة الآن!
الأميرة دينا مرعد /بين سحب الدخان… حقيقة قاتلة
12
المقالة السابقة