بدأ الرئيس الفلسطيني محمود عباس مشاوراته لتشكيل حكومة فلسطينية جديدة، ذلك بعد استقالة حكومة فياض. الواضح أن السلطة الفلسطينية تتصرف وكأنها دولة مستقلة مثل كل دول العالم، وكأنها ليست محتلة من عدو غاشم، جاثم على صدور شعبها منذ سنوات طويلة. الوزارة برئاسة سلام فياض عجزت عن تحقيق أهدافها التي أعلنت عنها بوعود من فياض شخصياً، فبدلاً من إقامة البنية التحتية والاستغناء عن المساعدات الخارجية مع بدء العام 2013، ارتفعت مديونية السلطة إلى أربعة مليارات دولار، وازداد العجز المالي إلى الحد الذي تتعثر فيه السلطة في دفع رواتب موظفيها الــ (160) ألفاً (وكأنها دولة كبرى) نهاية كل شهر. أسباب الاستقالة أو الإقالة (وهي الأدق تعبيراً) جاءت للخلافات المتفاقمة بين قيادات حركة فتح وفياض، لأن الأخير لا يقوم بالاستجابة لمطالبهم الكثيرة واحتياجاتهم الأكثر وتدخلاتهم الكبيرة في عمل الوزارة بكافة مجالاتها. فتح ترى أنها المعنية باستلام زمام المبادرة في كل مجال في الضفة الغربية. تفاقمت هذه النزعة بعد استيلاء حماس على السلطة في القطاع.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس وقف مع فياض في وقت سابق، لأنه يدرك مدى الدعم الدولي وبخاصة الأميركي له، وكذلك دعم المؤسسات النقدية العالمية وبخاصة صندوق النقد الدولي له. المعروف عن فياض مهنيته العالية وحرصه على مرور كل القضايا من خلال الحكومة. التلميع الذي ناله فياض دولياً لم يعجب لا عباس ولا قادة فتح، الذين ومنذ سنوات يضغطون على الرئيس من أجل تعيين بديلٍ له. للأسف فإن فياض وسط نتنياهو للضغط على الولايات المتحدة والمؤسسات النقدية العالمية لدعم السلطة من أجل دفع رواتب موظفيها! وهو الذي حضر مؤتمرات هرتسيليا الاستراتيجية لأعوام متتالية. سنة بعد سنة يتقوى فياض إلى الحد الذي بدا فيه نداً لعباس في قضايا كثيرة سواءً على الصعيد الخارجي أو الداخلي. معروفة وجهة نظره من تقدم السلطة بمشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بداية لتكون فلسطين عضواً كامل العضوية في المنظمة الدولية أو فيما بعد كعضوٍ مراقب. فياض كان ضد الخطوتين. وهو كان وراء فرض ضرائب عالية على الفلسطينيين دون التشاور مع عباس وكان خلف خطوات كثيرة أخرى اتخذها منفرداً.
مؤخراً، حاول عباس وضع الدواليب في عجلة رئيس وزرائه، إن بمحاولة تجريده من صلاحياته أو التقليل من مراكز قوته، من خلال فرض بعض الوزراء على الحكومة، وهذا ما يعاكس رغبة وخطة فياض، ومن خلال استعادة السيطرة على كافة الأجهزة التابعة للحكومة وبخاصة الأمنية منها، وهكذا دواليك حتى أخذت الأمور بين الرجلين طابع (لعبة القط والفأر) في التجاذب واستقطاب الآخرين، وهو ما أدى إلى حالة من الانفصام بينهما، وهكذا وصلت إلى درجة القطيعة ثم إلى الطلاق.
المسؤولون الفلسطينيون اعتبروا مناشدة الولايات المتحدة لعباس بإبقاء فياض في منصبه، تدخلاً مهنياً. صحيح نتفق معهم، ولكن أهذه هي المسألة الوحيدة في السلطة التي تتدخل فيها أميركا؟ ألا يُعتبر التنسيق الأمني مع إسرائيل والمفروض على السلطة من الولايات المتحدة تدخلاً؟ ألا تعتبر الاتفاقيات الأمنية المعقودة مع إسرائيل وبطلب أميركي تدخلاً؟ ألا يعتبر توقيع اتفاقيات أوسلو من الأساس تدخلاً أميركياً؟ ألا تعتبر استجابة السلطة للكثير من الضغوطات والمطالب الأميركية المتعددة إهانة للسلطة؟ لماذا فقط تدخلها بالضغط لإبقاء فياض يعتبر تدخلاً؟.
لا الولايات المتحدة الأميركية ولا إسرائيل تريدان للمصالحة الفلسطينية أن تتم. تحرص إسرائيل على الإمساك بأموال الجمارك الفلسطينية التي تجنيها باسم السلطة الفلسطينية، كوسيلة ضغط تمارسها على السلطة من أجل ابتزازها في الكثير من القضايا والخطوات.
تحرص إسرائيل على تطبيق اتفاقية باريس الاقتصادية الموقعة مع السلطة الفلسطينية والتي وقعها رئيس الوزراء الأسبق أحمد قريع (يومها غضب عرفات ولام الأخير كثيراً على توقيعه الاتفاقية، ويقولون إنه رماه بالملف). اتفاقية باريس تجعل من مجالات الاقتصاد الفلسطيني مسماراً صغيراً في العجلة الاقتصادية الإسرائيلية، إذا أرادت له الدوران، يدور قليلاً وإن أرادت وقفه، توقف صاغراً!، ألا يعتبر توقيع السلطة على هذه الاتفاقية خطأً مهنياً؟ لماذا لا يتحلى قادة فتح بالواقعية ويعددون كافة مجالات الضغوطات والتدخلات الأميركية في قرارات السلطة؟.
للأسف، الصراع بين فياض وخصومه لا ينبع من الحرص على مصلحة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، الذي يزداد شراسةً ومصادرةً للأرض الفلسطينية، وتكثيفاً للاستيطان وبناءً للحواجز والعراقيل في الضفة الغربية، وإمعاناً في تكبيل وقمع حريات المواطنين، ومزيداً من الاغتيالات والاعتقالات للفلسطينين، ومزيداً من تشديد الحصار على قطاع غزة، وتزايداً في منع إدخال المواد الحياتية حتى الغذائية منها إليه. هذا هو الواقع، وهذا هو حال أهلنا في المناطق الفلسطينية المحتلة، وللأسف بدلاً من العمل على تخفيف معاناة الفلسطينيين جراء الاحتلال، تقوم الحكومة بفرض المزيد من الضرائب عليهم، وتمارس الاعتقال والحد من حريات المواطنين، وتقوم باعتقال العديدين من أبناء شعبنا. للعلم الاحتلال الصهيوني لبلادنا هو احتلال سياسي، اقتصادي، اجتماعي، وطني…هذه هي القضايا التي يتوجب أن تحتل الأولوية في نشاطات السلطة وليس غيرها أي التخلص من الاحتلال وتبعاته. ما دمنا تحت الاحتلال فما أهمية استقالة فياض أو عدمها؟ وما هي أهمية بقائه أو استبداله بشخص جديد؟. الآتي سيكون مثل فياض ما دام الاقتصاد الفلسطيني محتلا ومحكوما من اسرائيل.
د. فايز رشيد
كاتب فلسطيني