تصر صحف المعارضة في مصر على أن الإخوان هم الذين يطلقون الخرطوش في المظاهرات (أمس تحدثت إحدى الصحف عما سمته «خرطوش الإخوان»).. بالمقابل يؤكد الإخوان أن عناصر بلاك بلوك والبلطجية هاجموهم في مظاهرة الجمعة بالخرطوش والشوم. في حين أن أخبارا أخرى تحدثت عن أن الخرطوش وجه صوب جنود الأمن المركزي. الأمر الذي أضاف صفحة أخرى إلى سجل الحيرة والبلبلة الحافل بالحوادث المماثلة، التي أقنعتنا بأن الغموض سيد الموقف، وأن باب معرفة الحقيقة مغلق حتى إشعار آخر.
على شاشات التلفزيون رأينا بأعيننا من يطلق الرصاص من مسدس يحمله، ووراءه آخر يحمل خرطوشا موجها إلى الطرف الآخر. لم تكن تلك هي الصورة الأولى التي نراها بأعيننا لأناس وجوههم مكشوفة أو نصف مكشوفة، لأنها تكررت مرات عدة. وكان أول سؤال يخطر على البال هو: ألا توجد في مصر جهة تستطيع أن تفحص تلك الصور وتحدد أصحابها لكي تحاسبهم وتعرف ما إذا كانوا مدفوعين أم أفرادا متحمسين ومنفعلين أم بلطجية تهمهم إشاعة الفوضى بأي ثمن؟
لا يحتاج الأمر إلى لجان لتقصي الحقائق، رغم أن المصطلح جرى ابتذاله بحيث سمعنا عن لجان حملت الاسم ولم تتعرف على شيء من الحقائق التي كلفت بتحريرها. بل إن غاية ما تتطلبه تلك المهمة أن يتوافر لها أناس لهم أعين يبصرون بها وضمائر حية تحثهم على إعلان الحقيقة بغير تردد أو مواربة.
حين اهتزت أمريكا وخيم عليها الخوف بسبب تفجيرات بوسطن. استطاعت الشرطة تحديد المشتبه فيهم من خلال الصور التي تم التقاطها. وخلال ثلاثة أيام نجحت في التعرف على الفاعلين وملاحقتهما، فقتل واحد وتم اعتقال الثاني، وهو ما بدد الخوف والقلق بسرعة وأعاد المدينة إلى حياتها الطبيعية.
الشقيقان اللذان ارتكبا الحادث كانا وسط حشد من البشر، وقد غطى كل واحد منهما رأسه بقبعة أخفت نصف الوجه، ومع ذلك تم التعرف عليهما بسرعة. أما مطلقو الخرطوش وحملة السكاكين والشوم عندنا فإنهم يظهرون بكامل هيئتهم، وفي بعض الأحيان يخفون نصف وجوههم.
ورغم أن صورهم رأيناها على شاشات التلفزيون، إلا أنهم كانوا بالنسبة لنا كائنات حية تتحرك، أما الأجهزة الأمنية فإنها ظلت تراهم أشباحا وعفاريت، تنشق عنهم الأرض في لحظة ثم سرعان ما تبتلعهم بعد ذلك، فيختفون ويتبخرون ولا تكاد تعثر لهم على أثر.
لابد أن يثير انتباهنا في هذا الصدد أن أركان النظام السابق ورموزه قدموا إلى القضاء في جرائم تافهة وتم حبسهم في منتجع طرة فيما بدا وكأنه تأمين وحماية لهم، في حين أطلق سراح بعضهم فعادوا إلى بيوتهم وكأنهم لم يرتكبوا جرما بحق مصر والمصريين. أما قتلة الثوار فإنهم لا يزالون مجهولين حتى هذه اللحظة، والعنف الذي شهدته المظاهرات وتخلله تعذيب وإطلاق للخرطوش لم يحاسب عليه أحد، واستوقفنا أن أحد القيادات الأمنية في القاهرة اشتكى أمام مجلس الشورى من أن البلطجية الذين تم إلقاء القبض عليهم تطلق النيابة سراحهم بسرعة، الأمر الذي يشجعهم على العودة إلى الشارع في اليوم التالي مباشرة. أما القضايا التي تتحرك وتحدد الجلسات لنظرها أو تلك التي تصدر فيها أحكام، فهي تلك التي ترفع ضد السلطة والنظام القائم. وهو ما رأيناه في حكم حل مجلس النواب والطعن في تعيين النائب العام وصولا إلى هروب نزلاء سجن وادي النطرون الذين كان الرئيس محمد مرسي أحدهم. بل إننا لا نكاد نجد خطوة خطتها الحكومة إلا وطعن فيها أمام القضاء الذي صار متفرغا لملاحقة السلطة بأكثر من انصرافه إلى تحصيل حقوق الناس.
قيل لي مرة إن الشرطة لم تعد قادرة على مواجهة الانفلات الأمني في ظل الاضطراب السياسي الراهن. كما قيل إن الأجهزة الأمنية استجدت عليها أوضاع لم تمكنها من القيام بواجباتها على النحو المطلوب. وهي حقيقة يتعين الاعتراف بها بشرط واحد. هو ملاحظة أن ثمة عناصر في تلك الأجهزة غير راغبة في وقف التدهور في الأوضاع الأمنية في البلد.
ما يمكن قوله بالنسبة للشرطة والأجهزة الأمنية يسري بذات القدر على النيابة والقضاء. وهو القطاع الذي تأثر بالتسييس، حتى وجدناه في بعض الأحيان طرفا في الصراع وليس حكما بين المتصارعين. وهي خلفية إذا صحت فإنها تسوغ لنا أن نقول إن ثمة قطاعات في المؤسسة المصرية لا يزال لها موقفها السلبي من الثورة، الأمر الذي يشكل ملفا إضافيا يتعين على القوى الثورية تقدير أهميته، لكنها تتعامى عنه للأسف متصورة أن هذه الأوضاع تخدم هدف إسقاط النظام الذي تسعى إليه، في حين أنها تستهدف الثورة بالأساس ـ إن بعضنا أصابه عمى البصر، والبعض الآخر استسلم لعمى البصيرة ـ والأمل معقود على الذين نجوا من الرذيلتين. حتى بات سؤال الساعة هو: أين هؤلاء؟