كان بطريرك الأقباط الأرثوذكس أكثر حكمة من غيره حين قال إن ما جرى للأقباط في بلدة الخصوص وفي الكاتدرائية بالقاهرة يثير علامات استفهام كثيرة، وقد فهمت مما نشرته الصحف أمس أنه يقصد موقف الشرطة بوجه أخص، حيث ألمح إلى أن ثمة شبهة تقاعس وتقصير من جانبها في التعامل مع الموقف.
هذا الغضب الرصين يعطي للآخرين درسا في الخطاب المسؤول، الذي يبدو غريبا واستثنائيا هذه الأيام، التي ضاقت فيها الصدور وانفلت العيار وكادت تتلاشى فيه الفواصل والمسافات بين العقلاء وبين المهيجين والمحرضين والغوغاء، حتى بدا وكأن الآخرين هم الذين أصبحوا يقودون الشارع المصري ويشكلون الرأي العام.
إذ أؤيد الأنبا تواضروس في عتابه وحيرته، فإنني أزعم أن علامات الاستفهام التي أشار إليها ليست مقصورة على ملابسات حادث الخصوص والكاتدرائية فحسب، ولكن نطاقها أوسع بكثير، بحيث تنسحب على العديد من الأحداث التي شهدناها بعد الثورة، وعجزنا عن تبين وجه الحقيقة فيها، من موقعة الجمل وقناصة المتظاهرين وحتى مذبحة الجنود المصريين في رفح، مرورا بأحداث شارع محمد محمود ومذبحة إستاد بورسعيد وموقعة الاتحادية. حيث لابد أن يستوقفنا ويثير انتباهنا ودهشتنا أننا لم نتعرف بعد على المسؤولين الحقيقيين عن تلك الأحداث.
إذا افترضنا حسن النية في البلبلة والالتباس المخيمين، فأول ما يتبادر إلى الذهن أن دوائر السلطة بعد الثورة تعاني أزمة معلومات، إذ قيل لي إن الأجهزة الأمنية والتنفيذية في الدولة لم تعد تتوافر لها المعلومات الكافية لمتابعة ما يجري على الأرض. وفهمت من بعض المسؤولين في الداخلية أن أجهزة المعلومات مازالت تحت التشكيل، بعد خروج أو استبعاد أعداد كبيرة من العاملين فيها الذين ظلوا طوال الثلاثين سنة الأخيرة على الأقل بمثابة أدوات وعيون وأحيانا سياط النظام السابق، وأيا كان رأينا في هؤلاء، فإن ذهابهم أدى إلى اختفاء خبرات طويلة، الأمر الذي أضعف من قدرة الأجهزة الأمنية على الأداء، وبالتالي أسهم في ضياع كثير من الخيوط التي كان يمكن أن تقود إلى تحديد مصادر التفلت والتحريض والفوضى.
لا أعرف ما إذا كانت هذه الخلفية تصلح تفسيرا لما وصف بأنه تقاعس أو تقصير من جانب الشرطة في أحداث الكاتدرائية أم لا، لكن أدعو إلى وضعها في الاعتبار على الأقل.
إضافة إلى ما سبق، فقد لاحظت في الأخبار التي نشرت أمس أنه تم القبض على ثلاثة من العاطلين الذين اشتبه في تورطهم في أحداث الكاتدرائية ومعهم قنابل يدوية وبعض الزجاجات التي تستخدم في تصنيع «المولوتوف»، وتبين أن أحدهم مسجل خطر متهم في 17 قضية سابقة. وذلك خيط آخر أحسب أنه يلقي بعض الضوء على دور البلطجية في العملية. واتصالا بهذه النقطة قيل لي إن الكاتدرائية في العباسية كانت قد أقامت حديقة في منطقة عشوائية مجاورة، كانت تسمى عزبة أبودومة، وهو ما دفع سكانها إلى النزوح إلى عزب أخرى مجاورة مثل عزبة أبوحشيش والوايلية، وهؤلاء لا يزالون يحملون الكاتدرائية بالمسؤولية عن نزوحهم، ولذلك فهم لا يكنون لها ودا، وعلى استعداد للمشاركة في أي اشتباك معها لتصفية حساباتهم والتعبير عن غضبهم.
هناك اعتباران آخران يتعين وضعهما في الحسبان لفهم ما جرى ووضعه في إطاره الصحيح، خصوصا أن الذي نبهني إليهما الأستاذ نبيل مرقس خبير التنمية والدراسات الاجتماعية المعروف. الأول أن حماس الشباب القبطي تزايد بشكل ملحوظ بعد الثورة، بحيث تجاوز سقف الكنيسة، التي لم تعد قادرة على ضبطه واحتوائه، وذلك الحماس كان له دوره في التوتر الذي جرى. الثاني أن قرار نقل جنازة ضحايا حادث الخصوص إلى الكاتدرائية بالقاهرة لم يكن حكيما ولم يدرس جيدا، فضلا عن أنه لم يتم بالتنسيق مع الجهات الأمنية، الأمر الذي أضعف القدرة على تأمين الجنازة.
لقد انتهزت الأبواق الإعلامية الفرصة وحولت ما جرى إلى حريق كبير، أرجو أن ينجح الرئيس مرسي في إطفائه. وأقترح عليه في هذا الصدد أن يقود بنفسه محاولة الإطفاء عن طريق زيارة الكنيسة وحضور القداس المفترض إقامته فيها يوم الأحد القادم.