محمد سعيد رمضان البوطي أحد علماء الأمة الإسلامية وأحد علماء العصر بغض النظر عن الاتفاق معه أو الاختلاف، وقد أسهم في رفد المكتبة العربية الإسلامية، والساحة العلمية العالمية بجملة من المؤلفات والأفكار، وقد تتملذ على يديه ومؤلفاته عدد كبير من طلاب العلم في سورية وخارجها على امتداد الكرة الأرضية، وله آراؤه العلمية ونظراته الإبداعية في علوم الفقه والسيرة وعلوم العقيدة وعلم الكلام، تستحق الاحترام والتقدير من الموافقين والمخالفين على حد سواء.
أعلم تماماً أن البوطي كان له رأي سياسي وموقف منحاز تجاه النظام الحاكم في سورية، وكان على علاقة وثيقة مع الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وقام بالثناء عليه مراراً، واستمر في تلك العلاقة مع الرئيس الابن، وتم استنكار هذا الموقف المنحاز مراراً، وتعرض لجملة انتقادات من عدد كبير من العلماء المسلمين، وربما قطاعات واسعة من الشعوب العربية والإسلامية، المؤيدين لثورة الشعب السوري، والمعارضين لأسلوب النظام القمعي العنيف في إخماد الثورة، واستخدامه المفرط للقوة، لكن ما يجب تأكيده أن موقف البوطي االسياسي لا يمكن أن يصل ولا ينبغي أن يصل إلى التفكير باستعمال لغة القتل والاغتيال.
ما يُجرى في سورية الآن يصل إلى وصف “الفتنة” التي يختلط فيها الحابل بالنابل، وتطورت الأمور إلى مستويات خطيرة يتعرض فيها المدنيون إلى عمليات القتل والتدمير والتهجير الواسعة، التي تتصاعد وتيرتها في ظل تعقيد المشهد على نحو مرعب، يملك النظام القسط الأوفر من أوراق الحل، كما يملك القسط الأوفر من أوراق التدمير وضياع مستقبل الدولة، وسفك المزيد من الدماء البريئة، والقسط الأكبر من تحمل مسؤولية ما يُجرى.
رغم تبادل الاتهامات بين الفريقين في كل مرة تحدث فيها جريمة مروّعة، وفي كل مذبحة يذهب ضحيتها العلماء والأطفال والنساء، فالأصل أن النظام الحاكم، والزعيم الذي يتحمل مسؤولية تأمين شعبه أن يبادر على وضع حد لهذه الفتنة، ووضع حد لسيل االدماء المتدفق، وذلك عن طريق تغيير اعتماد أسلوب السحق والتصفية العنفي، والتخلي عن التشبث بكرسي الحكم الفاقد لسند الشرعية الشعبي الصحيح، والذهاب إلى الاعتراف بالمعارضة والتخلي عن وصف ما يُجرى بالمؤامرة الكونية المفضي إلى الاستمرار بالعنف الدموي إلى النهاية المفزعة.
في كل دول العالم الطبيعية، عندما يعجز النظام عن حل االمشكلة بغض النظر عن المصيب والمخطئ فيها، يلجأ إلى تقديم استقالته من أجل فتح الطريق لمرحلة أخرى وفريق آخر يصنع التوافق ويضع حداً للتدهور المتزايد، لأن الدولة أهم من أي نظام، والشعب فوق كل حكومة، والوطن ليس حكراً لشخص أو فئة أو عائلة، وليس ملكاً لحزب حتى لو كان كبيراً وذا تاريخ عريق مليء بالإنجازات.
اغتيال “البوطي” يجب أن يشكل علامة فارقة في مسلسل الفتنة الذي بدأ بأخذ مسارات خطرة، ستؤدي حتماً إذا استمر هذا النهج إلى مزيد من إضعاف الدولة، لتصبح من عداد الدول الفاشلة الضعيفة، التي تحتاج إلى عشرات السنوات من أجل إعادة البناء وإعادة امتلاك القوة، وصناعة الوحدة، ولم شعث الشعب الممزق.
إذا كانت سورية تتعرض لمؤامرة، فالأصل أن النظام الحاكم إذا كان وطنياً، أن لا يسمح لنفسه بالوقوع بهذا الفخ، وأن لا يسمح لنفسه أن يكون طرفاً بتدمير دولته وقتل شعبه، فصفة الوطنية وقليل من الذكاء تجعل الأسلوب الأمثل بالتعامل الواقعي مع الأوضاع عن طريق التفاهم والحوار المفضي إلى تسليم السيادة إلى الشعب السوري بطريقة صحيحة بإشراف النظام نفسه، وبطريقة سلمية، بعيداً عن الغطرسة والاعتماد على القوة المسلحة، وبعيداً عن لغة التخوين والمؤامرة.
بات واضحاً أن السوريين جميعاً معنيين بحل مشكلتهم بأنفسهم، من دون اللجوء إلى دول العالم سواء كانوا مؤيدين أو معارضين، ومن دون انتظار تغيير المواقف، وحظر وقف السلاح، وهذا الخطاب موجه لجميع الأطراف بلا استثناء.
وللإجابة على سؤال من قتل البوطي؟ وسؤال من استعمل الأسلحة الكيميائية والغازات السامة؟ ومن المسؤول عن تعقيد المشهد على هذا النحو الخطير الذي سوف يحرق الأخضر واليابس؟ لا بد من السماح بتشكيل لجان تحقيق نزيهة بإشراف أطراف عربية وإسلامية محايدة، بعيدة عن هيمنة أحد طرفي النزاع الدائر في سورية من أجل معرفة الحقيقة الضائعة، ووضع حد لنهاية مأساوية تؤدي إلى إعدام الدولة وإفشالها وإبطال فاعلية دورها االإقليمي وأثرها في معادلة الصراع مع العدو الصهيوني مستقبلاً.
د.رحيل غرايبة /اغتيال البوطي جريمة بشعة
16
المقالة السابقة