عروبة الإخباري – كتب سلطان الحطاب –
ابتسامته تسبق كلامه…وصوته الهادئي يفتش الكلمات قبل إطلاقها …لا تعوزه الشجاعة التي يحسن استخدامها في اللحظات الصعبة..
وتستطيع أن تميز مزحه من جده فلا يغرنك الابتسامة كما انه يضع الأشياء في موضعها فلا يخلط بين الحزم والجد والتهوين والمزح …
“إذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم”…
والابتسامة عنده تخفي مواقف صلبة وقاطعة يضع الأشياء في مواضعها فقد كان ليناً حيث يجب أن يكون اللين, وصلباً حيث يجب ان تكون الصلابة , وينطبق عليه قول الشاعر:
” ووضع الندي في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى …
حين كان وطنه يعوزه أن يكون معارضاً كان وحين كان يعوزه ان يساهم في بناء السلطنة مع قائدها وباعث نهضتها كان ولذا انخرط في وزارة الخارجية ليعرب الجملة السلطانية وينقلها في أرجاء المعمورة فقد تتلمذ في المدرسة السلطانية وأتقن نحوها وصرفها وتمثل لغتها وأدبها واكتسب أخلاقها وابدع في إنفاذ مخططاتها.
وقد عَجَم السلطان قابوس عودة أكثر من مرة حين انتدبه للمهمات الصعبة فوجده من أكثر رجاله قدرة على تحمل المسؤولية، ومن اكثرهم تواضعاً حين لم ينسب لنفسه انتصارا او تفوقا وإنما نسب ذلك للسلطنة وقائدها وسياستها إذ أراد نفسه دائما ان يكون جنديا مجهولا حين يكون الهدف رفع سمعة السلطنة وتعظيم دور قائدها!!
ظل يؤمن بالغد والمستقبل وظل يأخذ ببساطة العيش, وحسن المعشر وكان يؤمن أن الوطن اكبر من الجميع, وأكثر ديمومة من اي لمعان لفرد مهما بلغ شأنه وموقعه..
لا يؤمن بالجمود او الثبات وإنما بالتغيير وكأني به يكاد يقول ما قال الحكيم الشاعر: أبي تمام
“وطولُ مقامِ المرءِ في الحي مخلقُ لديباجتيهِ فاغتربَ تتجددِ”.
لا يؤمن بعداوة دائمة ولذا لا يعادي لا على المستوى الفردي وللعام الوطني اذ يؤمن بان الله يغير الحال بغيرها فالدنيا في صيرورة مستمرة… وهو لا يرى في السياسة زوايا حادة او مغلقة وإنما استدارات يمكن الولوج منها وهندستها مهما كانت المطروحات معقدة…
يراهن على أرادة الإنسان في التغيير ويرى ان السياسة على ما هي عليه قاسية حين لا تبنى على مبدأ وحين لا يتداولها المحترفون فالسياسة ليست بالضرورة ان يَكون بلا ضمير او تظل شكلا من أشكال المراوغة والمداهنة …
امن بن علوي بأمته وعمل من أجلها وكان قد ساهم في استدارة البوصلة العمانية حين قرأ نهج السلطان منذ اللحظة الأولى فكان تدشين خطوط عمان باتجاه أمتها بداية…. باتجاه عروبتها….. باتجاه الجامعة العربية وباتجاه كل الدول العربية بلا تحفظ او عداوة.
أراد أن تكون لغة السياسة العمانية مباشرة وبعيدة عن التعقيد او احتمال الوجوه العديدة والتأويلات الفضفاضة, وان تكون مقروءة وهادئة بعيدة عن التهديد والمغامرة واستهلاك المواقف…
آمن أن لعمان سياسة واحدة بوجه واحد “وما فوق الطاولة هو كالذي تحتها” وما هو معروض هو كالذي لم يُعرض وان الفرق هو في التحولات والظروف والاستطاعة وعدم الأخذ بالظن !!!!
كان شديد الدهاء محنكاً كما سمعت عنه ممن عرفوه وأخذوا برأيه وحتى ممن اختلفوا معه ورفضوا مواقفه واقروا بدوره..
تسلح بتاريخ بلاده واستحضره, واستلهم دروسه, وحفظ محطاته الأساسية, واتكأ على جغرافيا عُمانية صلبة التكوين, وذات موقع مميز……وادرك أن الشخصية العمانية هي نبتة صلبة الجذور وقادرة على أن تطرح ثمارها وافرة, لأن هذه الشخصية ارتوت من التاريخ واستندت الى مجده وهي شخصية وسطية بلا تطرف او خضوع فقد تعلمت ركوب البحر وركوب الخيل كما تعلمت التجارة والانفتاح وقبول الاخر ….
ما أن يذكر وزراء الخارجية على المستوى العربي وحتى العالمي إلّا ويذكر بن علوي في مقدمتهم.. وحين تكون للمؤتمرات المعقودة قيمة يكون رأيه مسموعاً وتحذيراته مقروءة وملاحظاته لا يجري تجاوزها…
قليل الحديث, فإن تحدث أوجز, وان أوجز اُفهم قصده ,واحترم مُجالسه , حتى لو كان عدوه.!!!
لا يؤمن بالكلام بديلا عن الفعل, ولذا كان يخشى غواية اللغة أو التوقف عند القشور أو الاكتفاء بالصدى …
ولذا رأيناه يتصدى في احدى اللقاءات مع وزراء الخارجية العرب يطلب منهم ان يتحدثوا بلغة عملية بدل الخطابة وان يتخذوا مواقف عملية وعقلانية حين تكون القدس هي الموضوع وان لا يطعموا الفلسطيني شعارات وجوزاً فارغاً وخطابة جربوها وملوّها….
وحين كان يحاور العقيد القذافي في خيمته وكان يشير له الى ضعف الأمة وحاجتها لخطوات عملية وليس الى خطابة وتهويل وإدعاء وقد اثر بذلك على مضيفه…
نذره السلطان للمهمات المعقدة الصعبة للبحث في وقف اطلاق النار في الحرب الإيرانية وفي الحوار الايراني الأميركي المُبكر, وفي الاطلالة على مشكلة لوكربي التي استهدفت ليبيا, وحتى في الصراعات الطائفية في الجزائر, و في زيارة دمشق العاصمة التي هجرها العرب وأمطرها بعضهم بالقذائف فكان هناك حيث يجب ان يكون العربي, وكان له (باسم السلطنة) رأي في ما يجري في سوريا وقد قال: “ستكشف الأيام ما جرى” محملاً أطراف مسؤولية ما جرى وكذلك في اليمن مطالباً الفرقاء الارتقاء إلى مستوى يمنع الحرب ويحافظ على المصالح أما في فلسطين فقد ظل يدعوا إلى إنفاذ قرارات الشرعية الدولية والى وقف تهويد مدينة القدس..
وحين زار فلسطين واحس بوطأة الاحتلال قال ليس من رأى كمن سمع””
كانت لندن وباريس وواشنطن والقاهرة وكل العواصم ذات القرار من المحطات التي زارها عمل فيها ومعها من اجل دور عماني أفضل وأكثر عدالة وإنسانية وتحقيقاً لمصالح بلاده…
حين يجري حواراً كان يشعر محاوره بسهولة المهمة وضرورة وضع النقاط على الحروف دون أن تاخذه في الحق لومة لائم…
كان يرى السلام ضرورة وغاية لابد من السعي لها بكل الوسائل وتعظيمها والزراعة في مناخاتها لان الحرب مدمرة يرى فيها ما كان يراه حكماء العرب “الهرم بن سنان والحارث بن عوف” الذين امتدحهما الشاعر الشهير زهير بن أبي سلمى قبل الإسلام لأنهما انقذا قبيلتي عبس وذيبان من الفناء واستمرار الغرق في الدم والتطاحن في الحرب وقال لهما…..وهو يصف قيمة السلام ومشؤمية الحرب…
“” تَدَارَكْتُـمَا عَبْسًا وَذُبْيَانَ بَعْدَمَـا تَفَـانَوْا وَدَقُّوا بَيْنَهُمْ عِطْرَ مَنْشَـمِ””
لم يكن يهمه المنصب, وإنما مضمونه ومدى العمل من خلاله , ولم يكن تهمه الشكليات وإنفاق المال و”البهورة” …وإنما وضع الأشياء في أماكنها والاقتراب من الناس الى أقصى حد والشعور بما يحسون به, وقد رايت كيف يصافحه سكان الجبل في ظفار حين كرمني برفقته إلى صلالة والالتقاء بزعماء قبائلها والاطلاع على عاداتهم وتقاليدهم ..
وقد تقبل منهم اعز هداياهم وهي “بندقية” لان الجبلي يتحلى بالسلاح ويعتز ويؤمن به كرمز وقيمة عالية حين يستوحش البيئة ويتعامل معها بايقاعات, ويزاوج بينها وبين التاريخ ..وهو بذلك مؤمن عميق الإيمان في تعبده وصلواته وفي نظرته للكون والإنسان وفي احترامه للبشر والبشرية…
الرجل بسيط في مأكله ومشربه وملبسه ويرى في ذلك الكمال فالانسان يعكس نفسه بما يقدم وبما ينجز وتبرز أخلاقه وعمله وليس بكمية امواله …
بن علوي لا يؤمن بالشعارات ولا تخدعه العبارات الطنانة او اللغة المجانية وإنما يأخذ بالواقع واسبابه فإن لم يعجبه الواقع انطلق منه لتطويره دون قفز او استعجال او حرق مراحل …هذا هو منطق مقابلاته وقد جربت احداها…
احترف الدبلوماسية حتى اصبح صائغا, يشكل معطياتها كما يشكل الصائغ الذهب ويكيل فيها بالغرام ويجد طريقة بين الالغام, ويرى ان البصيرة اقوى من البصر وأن الصبر والتروي هو وقود الدبلوماسية و”بطاريتها” التي تمكنها من الوصول مبكرا مهما ابطأت وهو يراهن على الصيرورة والمتغيرات لاعتقاده ان لا شيء ثابت في الحياة !!!
ورغم انه تجاوز السبعين الا انه يراهن على الشباب وينحاز اليهم ويؤمن بهم و بضرورة اعطائهم الفرص وتسليمهم الرايات ليتواصل الخفقان والحيوية وقد ترجم مواقفه في ارائه المعلنة حين عم الربيع العربي واصاب عمان…
احترف الوساطة الدبلوماسية وكان قادرا دائما على فك رموزها وقراءة الكثير من طلاسمها وطقوسها فكان حصاده وفيرا في اكثر من وساطة ومناسبة واضافة ايجابية…
ورغم اهوال الصراعات والحروب لعبت سلطنة عمان دورا في وقف الحرب العراقية الإيرانية والاتفاق النووي المعقد بين إيران وخصومها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية فكانت عمان الحاضنة الوحيدة التي تفتح فيها الاتفاق ..
وكانت عمان الأقرب إلى سوريا المجروحة من جوارها العربي بدعوتها إلى استقرار سوريا وخدمة شعبها الواحد وكانت السلطنة محايدة في اليمن رغم ان اليمن سبب لها صداع السبعينات وجع في الخاصرة وظلت عمان محايدة في اليمن وقد دافعت عن اليمنيين حين تكاثرت السكاكين عليه ….
والسلطنة هي اول من فتح في الجدار العربي كوة ليظهر وجه مصر الجلي بعد معاهده كامب ديفيد فكانت عمان اول من انهى القطيعة واول من دعا للتواصل مع مصر يوم قال السلطان “مصر لا تقاطع”, ويوم أن زاد بن علوي بعد اكثر من اربعين سنة بالقول: ” مصر عكازة الأمة”!! ….
كان أول وزير خارجية عربي يزور القدس ويدخل على اهل فلسطين من ابوابها ويستاذن أهلها, وكان الاكثر احساسا بمأساة احتلال القدس حين حمل اليها رؤية السلام والمشاعر والبخور ليعمر به مسجدها الاقصى وكنيسة القيامة ورأى فيها “ان الاسير يزار” وان زيارته لا تعني زيارة السجان ” وترك في ذلك مثلا يضرب وقدوة جديرة بالاتباع …
وعمان في دبلوماسية السلطان ان صادقت تصادق باخلاص وان عادت تعادي هونا …فهي لا تفجُر في العداوة بل تسمى الأشياء بأسمائها وتحترم الجار ولا تكّفره او تحرّض عليه, حتى وان فعل ذلك فهي “لا تنه عن خلق وتاتي بمثله ” وهكذا فعلت مع الجارة ايران ورأت ان الجغرافيا الآمنة وهي رباط لا خلاص منه وان الانسان قد لا يختار جاره وحتى وان اختاره فإنه لا يضمن أمنه ولذا عليه ان يبدأ بالسلام و”خيركم الذي يبدأ بالسلام”!!! ….
وايران عند السلطنة ليست فُرسا, وليست صفويه, وليست طائفية,وليست شرا, وإنما جار يمكن قراءته بصورة افضل مهما استعدى الاخرون او اغمضوا عيونهم أو بحثوا عن عيوب وقد ادركت عمان ان دبلوماسيتها في خدمة مصالحها وليست على الشكل الذي يحاول تفسيره الكارهون من خلال احكام جاهزة وانطباعات مسبقة والسلطنة تدرك أن “عدو عاقل خير من صديق جاهل” ولذا قالت لبعض من جيرانها الذين تامروا وطعنوا “اللهم اكفني شر حلفائي في دول المجلس أما ما يسمونهم من أعداء فأنا كفيل بهم..
ولم يستخف السلطنة زيادة الحشد الأميركي ضد ايران ولا السوق المجاني لما عند العرب من مال وعدة وعتاد في معركة اخطات البوصلة في تعيين اتجاهها ولذا إرادت عمان القعود حين رفع الآخرون المصاحف على الرماح واطلقوا الصيحات وصافرات الحرب دون دراية لما ستئوول إليه امورهم وكانوا مثل “غزية” التي لا موقف مستقلا لها …..
لقد وضعوا كل بيضهم في سلة الولايات المتحدة راح بعضهم لينام مطمئناً في فراش الذئب وقد اعتقدوا ان نعومته بديل انيابه وقد حذرت عمان من ذلك وما زالت وقالت لقومها : “أَمَرْتُهُمُ أَمْرِى بمُنعَرَجِ اللِّوَى … فلم يَسْتبِينُوا الرُّشدَ إِلا ضُحَى الغَد”
وعمان اليوم وقد تمرست في الدعوة للسلام والابتعاد عن الصراع تأخذ بأسلوب “زرقاء اليمامة” وهي ترى كيف تلوذ أمتها بسلاح غيرها وكيف تحتمي بخنادق غيرها وكيف تدق طبول حرب ستأتيها بالمشوؤم لأنها لا تقوى على قطف الانتصار فيها ولا تستطيع حتى الاستفادة منه لأنه لغيرها وقد جربت الأمة ذلك في العراق الذي طعنه ابناؤه بحجة انقاذه …
والسؤال هل تحتاج دول الخليج لكل هذه الأسلحة؟؟ وهل يحتاج لكل هذا الصهل وقرع الطبول ولماذا كل هذا المشي في جوقة الأجنبي والفرح لمخططاته التي تستهدف الأمن العربي والمصالح العربية اكثر من اي شئ أخر!!!
لقد ظل العرب يخطئون فقد تحالفوا مع الغرب لإنقاذهم من الترك فكانت سايس بيكو وتقسيماته في حصتهم وكان وعد بلفور الذي انتزع فلسطين منهم وكررو ذلك في حروب الخليج حين استعانوا بالاجنبي فأين وصلوا وما زالوا يحتربون وما زال بأسهم بينهم شديد وهم اليوم برد وسلام على أعدائهم الحقيقيين ونار على اهلهم وعلى أنفسهم فإلى متى هذا؟
بن علوي لم يقل ذلك ولكني اخاله يقوله ففي فمه ماء إذ لا يرغب أن يبع الحكمة على غيره أو يتدخل في شؤون غيره رغم أنه لم يبخل بالتبصير والنصيحة ولم يتردد في قول كلمة الحق!!!! …
هذا زمان عماني صعب ما زال البحار العماني فيه يقظاً رغم الالم الذي في الخاصرة بسبب الوجع اليمني فالحرب حيث جاءت الامم تتجمع عليه وتجمع الأكلة على قصعتها كما يقول الرسول (ص) ليس عن قلة وانما عن سوء بصيرة وغياب حكمة والارتباط بمصالح الآخر مما جعل واقع الأمة كغثاء السيل وجل ما تقوم به جعجعة دون طحن أو احتطاب في حبال الآخرين ودفع كلف مصالحهم فإلى متى!!!…..
هذا قد يقوله بن علوي وقد يصبر عليه لأنه يؤمن بالسلام ويحق الامة فيه …